محمد حماد
حين نقرأ الآيات التي حكت لنا قصة الخلق في أوائل سورة البقرة من أول الآية 30، يجب أن نتوقف لنتبين الكثير مما قد يمر علينا من دون تدقيق النظر، ولا شك في أننا مطالبون بأن نلاحظ:
أولا: أن الله حكى لنا قصة خلق آدم، واستخلافه، وسجود الملائكة، ورفض إبليس السجود، وكل ذلك بطريق المحاورة مع الملائكة، ثم مع إبليس، ثم مع آدم لما عصى الله، وأكل من الشجرة المحرمة والحوار حرية.
ثانياً: أن صفة الطاعة المجبولة عليها الملائكة، لا تنفي إمكانية السؤال، والسؤال إلى الله عبادة وطاعة، فقد سأل سيدنا إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" "البقرة:260"، وانظر إلى قوله تعالى: "أَوَلَمْ تُؤْمِن"، يسأله ربما ليذكره، وربما ليقرعه، ثم استجاب ربنا عز وجل إلى رغبة الخليل في اليقين الذي يجعل قلبه مطمئناً..
ولا أحد يحاجج في: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ""هود75"، و"إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" "النحل120"، كان طائعاً لله، مؤمناً قانتاً وهو يسأل، وقبل أن يسأل، وبعد أن سأل.. والسؤال حرية..
ثالثاً: أن القصة كما حكاها المولى عز وجل لنا في القرآن الكريم استخدمت صيغة الإخبار والإعلام للملائكة، ولم تستخدم صيغة الأمر، إلا في السجود، وقبل السجود، كانت المحاورة مفتوحة ما شاء الله لها أن تفتح: سألت الملائكة الله عن حكمة استخلاف آدم، وقد علمت أنه وذريته سيسفكون الدماء ويفسدون في الأرض.
القيمة الكبرى للإنسان
رابعاً: إن أبرز إيحاءات قصة آدم هو القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان ولدوره في الأرض، ولمكانه في نظام الوجود، وللقيم التي يوزن بها، ثم لحقيقة الفطرة التي فطر عليها، والعهد الذي عاهد عليه الله، وحقيقة هذا العهد الذي قامت خلافته على أساسه، وأمانة الحرية التي حملها بشرطها، وهو العبادة لله الواحد الأحد.
وتتبدى تلك القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان في الإعلان العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم، أنه مخلوق ليكون خليفة في الأرض؛ كما تتبدى في أمر الملائكة بالسجود له، وفي طرد إبليس الذي استكبر وأبى.
خامساً: أن الله حكى المحاورة مع إبليس أيضاً، مرة إجمالاً، وحكاها مرات تفصيلاً، وفي كل مرة يضاف إلى المعلوم من القصة جديد، مفيد في تكوين صورة ما حدث.
سادسا: القصة تؤكد أن الحوار مع الله غير ممنوع، ولا هو مقطوع، بل بدأ منذ بدء الخليقة، وظل قائماً، وسوف يبقى إلى يوم الدين، وما الصلاة إلا صلة بالله، يحاور فيها العبد ربه بل ويناجيه ويسأله ويجيب: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" "البقرة:186"..
سابعاً: أن إبليس وقد شهد محاورة الملائكة واستفهامها عن حكمة استخلاف آدم، وانطوت نفسه على الحسد والكراهية والحقد على المكانة التي وضعه الله فيها، والقوامة التي خصه بها على ما في الأرض، لم يستطع كتمان ما في نفسه، وأظهر ما فيها، فأبى السجود، واستكبر، وأصر على فسوقه، ونحسب أن ذكر تفاصيل المحاورة معه، يدلنا على المكنون في نفس إبليس، وعن رحلته من العبودية لله إلى الخروج عن أمر الله، تلك الرحلة التي ابتدأت بالحسد والاستكبار، وانتهت بالكفر وبالطرد واللعنة والوعد بجهنم وبئس القرار.
وأخيراً: إن الإنسان سيد هذه الأرض، ومن أجله خلق كل شيء فيها، وهو أعز وأكرم وأغلى من أن يكون عبداً لغير الله، وفي التصور الإسلامي إعلاء من شأن الإرادة في الإنسان، فهي مناط العهد مع الله، وهي مناط التكليف والجزاء..
ولا شك في أن الوفاء بالعهد المأمور به الإنسان المكلف يتطلب إرادة حرة، لها مقدرة الاختيار بين الوفاء بالعهد وعدم الوفاء به، لأن الأمر بالوفاء يفترض مقدرة عدم الوفاء، والمطالبة بالوفاء هي في الوقت نفسه إعلان مقدرة الإنسان على عدم الوفاء، وهي أيضاً إعلان حرية الإنسان فالمسؤولية تترتب على الحرية والعكس صحيح.
يملك الإنسان الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته، وعدم الخضوع لشهواته، والاستعلاء على الغواية التي توجه إليه، كما يملك أن يشقي نفسه ويهبط من عليائه، بتغليب الشهوة على الإرادة، والغواية على الهداية، ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه، وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه، يضاف إلى عناصر التكريم الأخرى، كما أن فيه تذكيراً دائماً بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة، والرفعة والهبوط، ومقام الإنسان المريد، ودرك الحيوان المسوق.
الحرية الحقيقية
خلق الله الناس أحراراً، ولم يكره الله الناس على طاعته، وهو القادر على ذلك: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ" "يونس:99"..
والشريعة قائمة على الحرية، والحر لغة نقيض العبد، وحرره يعني أعتقه، والحرية بالمفهوم الذي نقول به، تعني ما تعنيه لغة، أنها عتق للرجل من كل صور العبودية لغير الله، والخلاص من كل عبودية غير واجبة، إلى العبودية الواجبة لله الواحد الأحد.. والحر من الناس أخيرهم وأفضلهم، وأفضل الناس أعبدهم لله واتقاهم له، والحرية الحقيقية هي التخلية بين الإنسان وعقله، والإنسان وفطرته السليمة، والإنسان وربه الحق، فلا يعبد من دون الله شجراً ولا حجراً ولا حيواناً ولا إنساً ولا جنياً، فذلك كله مما يناقض العقل السليم، والفطرة السليمة، والعبودية لرب العباد...
والحرية الحقة هي إطلاق سراح الإنسان من كل قيد على عقله، ومن كل ما يعكر فطرته، ومن أي شيء يحط من إنسانيته إلى حيوانية مرذولة، وهي إطلاق سراح الإنسان من كل شهوة مرذولة، ومن كل رذيلة تعكر صفو فطرته ونقاءها.
عبودية الإنسان لله هي حريته، هي تحرره من عبودية العادة ومن عبودية السائد، ومن عبودية العلاقات الاجتماعية، هي تحرره من الآخر الذي يفرض عليه ذوقه وعاداته وآراءه، هي العودة إلى ما فطر عليه الإنسان.
إن الإنسان وهو يمضي قدماً في طريق التحكم في أهوائه، وانفعالاته، هو في الحقيقة يسير في طريق إدراك حريته، لأن الحياة الإنسانية الحقة تبدأ من حيث تنتهي الحياة في صورتها الحيوانية، والواقع أن الحرية ليست مشكلة إلا لأن الإنسان عرضة في كل وقت، وفي كل لحظة من لحظات حياته الدنيا، لأن يفقد حريته وما سعيه الدائب إلى الله، وما أوباته المتكررة إلى ربه، إلا مجرد سعي إلى حريته، وهو إلى جانب ذلك أمان من أن يقع في عبودية: "مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ" "البقرة:170"، وهي عبودية السير في الركاب، أو عبودية العادة والاعتياد، أو عبودية السائد والتقاليد، وكلها عبوديات تأسر حرية الإنسان، ولا يفك إساره إلا عبودية واحدة، لرب واحد، هو الله خالق كل شيء، والقادر على كل شيء، والعليم بكل شيء، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، له الأسماء الحسنى وتعالى الله عما يشركون.
والإسلام يعتق الإنسان من كل صور العبودية لغير الله، وهو اعتقه بذلك من عبوديات جمة، وقدم له الحرية في معناها الأسمى، ليجعل منه إنسانا في صورته المثلى، حيث يكون بعبوديته لله، كائنا ربانيا "وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ"، ويرفعه صدق العبودية لله إلى منزلة أن يكون اللهُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها.
"عن موقع دار الخليج"
حين نقرأ الآيات التي حكت لنا قصة الخلق في أوائل سورة البقرة من أول الآية 30، يجب أن نتوقف لنتبين الكثير مما قد يمر علينا من دون تدقيق النظر، ولا شك في أننا مطالبون بأن نلاحظ:
أولا: أن الله حكى لنا قصة خلق آدم، واستخلافه، وسجود الملائكة، ورفض إبليس السجود، وكل ذلك بطريق المحاورة مع الملائكة، ثم مع إبليس، ثم مع آدم لما عصى الله، وأكل من الشجرة المحرمة والحوار حرية.
ثانياً: أن صفة الطاعة المجبولة عليها الملائكة، لا تنفي إمكانية السؤال، والسؤال إلى الله عبادة وطاعة، فقد سأل سيدنا إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" "البقرة:260"، وانظر إلى قوله تعالى: "أَوَلَمْ تُؤْمِن"، يسأله ربما ليذكره، وربما ليقرعه، ثم استجاب ربنا عز وجل إلى رغبة الخليل في اليقين الذي يجعل قلبه مطمئناً..
ولا أحد يحاجج في: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ""هود75"، و"إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" "النحل120"، كان طائعاً لله، مؤمناً قانتاً وهو يسأل، وقبل أن يسأل، وبعد أن سأل.. والسؤال حرية..
ثالثاً: أن القصة كما حكاها المولى عز وجل لنا في القرآن الكريم استخدمت صيغة الإخبار والإعلام للملائكة، ولم تستخدم صيغة الأمر، إلا في السجود، وقبل السجود، كانت المحاورة مفتوحة ما شاء الله لها أن تفتح: سألت الملائكة الله عن حكمة استخلاف آدم، وقد علمت أنه وذريته سيسفكون الدماء ويفسدون في الأرض.
القيمة الكبرى للإنسان
رابعاً: إن أبرز إيحاءات قصة آدم هو القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان ولدوره في الأرض، ولمكانه في نظام الوجود، وللقيم التي يوزن بها، ثم لحقيقة الفطرة التي فطر عليها، والعهد الذي عاهد عليه الله، وحقيقة هذا العهد الذي قامت خلافته على أساسه، وأمانة الحرية التي حملها بشرطها، وهو العبادة لله الواحد الأحد.
وتتبدى تلك القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان في الإعلان العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم، أنه مخلوق ليكون خليفة في الأرض؛ كما تتبدى في أمر الملائكة بالسجود له، وفي طرد إبليس الذي استكبر وأبى.
خامساً: أن الله حكى المحاورة مع إبليس أيضاً، مرة إجمالاً، وحكاها مرات تفصيلاً، وفي كل مرة يضاف إلى المعلوم من القصة جديد، مفيد في تكوين صورة ما حدث.
سادسا: القصة تؤكد أن الحوار مع الله غير ممنوع، ولا هو مقطوع، بل بدأ منذ بدء الخليقة، وظل قائماً، وسوف يبقى إلى يوم الدين، وما الصلاة إلا صلة بالله، يحاور فيها العبد ربه بل ويناجيه ويسأله ويجيب: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" "البقرة:186"..
سابعاً: أن إبليس وقد شهد محاورة الملائكة واستفهامها عن حكمة استخلاف آدم، وانطوت نفسه على الحسد والكراهية والحقد على المكانة التي وضعه الله فيها، والقوامة التي خصه بها على ما في الأرض، لم يستطع كتمان ما في نفسه، وأظهر ما فيها، فأبى السجود، واستكبر، وأصر على فسوقه، ونحسب أن ذكر تفاصيل المحاورة معه، يدلنا على المكنون في نفس إبليس، وعن رحلته من العبودية لله إلى الخروج عن أمر الله، تلك الرحلة التي ابتدأت بالحسد والاستكبار، وانتهت بالكفر وبالطرد واللعنة والوعد بجهنم وبئس القرار.
وأخيراً: إن الإنسان سيد هذه الأرض، ومن أجله خلق كل شيء فيها، وهو أعز وأكرم وأغلى من أن يكون عبداً لغير الله، وفي التصور الإسلامي إعلاء من شأن الإرادة في الإنسان، فهي مناط العهد مع الله، وهي مناط التكليف والجزاء..
ولا شك في أن الوفاء بالعهد المأمور به الإنسان المكلف يتطلب إرادة حرة، لها مقدرة الاختيار بين الوفاء بالعهد وعدم الوفاء به، لأن الأمر بالوفاء يفترض مقدرة عدم الوفاء، والمطالبة بالوفاء هي في الوقت نفسه إعلان مقدرة الإنسان على عدم الوفاء، وهي أيضاً إعلان حرية الإنسان فالمسؤولية تترتب على الحرية والعكس صحيح.
يملك الإنسان الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته، وعدم الخضوع لشهواته، والاستعلاء على الغواية التي توجه إليه، كما يملك أن يشقي نفسه ويهبط من عليائه، بتغليب الشهوة على الإرادة، والغواية على الهداية، ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه، وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه، يضاف إلى عناصر التكريم الأخرى، كما أن فيه تذكيراً دائماً بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة، والرفعة والهبوط، ومقام الإنسان المريد، ودرك الحيوان المسوق.
الحرية الحقيقية
خلق الله الناس أحراراً، ولم يكره الله الناس على طاعته، وهو القادر على ذلك: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ" "يونس:99"..
والشريعة قائمة على الحرية، والحر لغة نقيض العبد، وحرره يعني أعتقه، والحرية بالمفهوم الذي نقول به، تعني ما تعنيه لغة، أنها عتق للرجل من كل صور العبودية لغير الله، والخلاص من كل عبودية غير واجبة، إلى العبودية الواجبة لله الواحد الأحد.. والحر من الناس أخيرهم وأفضلهم، وأفضل الناس أعبدهم لله واتقاهم له، والحرية الحقيقية هي التخلية بين الإنسان وعقله، والإنسان وفطرته السليمة، والإنسان وربه الحق، فلا يعبد من دون الله شجراً ولا حجراً ولا حيواناً ولا إنساً ولا جنياً، فذلك كله مما يناقض العقل السليم، والفطرة السليمة، والعبودية لرب العباد...
والحرية الحقة هي إطلاق سراح الإنسان من كل قيد على عقله، ومن كل ما يعكر فطرته، ومن أي شيء يحط من إنسانيته إلى حيوانية مرذولة، وهي إطلاق سراح الإنسان من كل شهوة مرذولة، ومن كل رذيلة تعكر صفو فطرته ونقاءها.
عبودية الإنسان لله هي حريته، هي تحرره من عبودية العادة ومن عبودية السائد، ومن عبودية العلاقات الاجتماعية، هي تحرره من الآخر الذي يفرض عليه ذوقه وعاداته وآراءه، هي العودة إلى ما فطر عليه الإنسان.
إن الإنسان وهو يمضي قدماً في طريق التحكم في أهوائه، وانفعالاته، هو في الحقيقة يسير في طريق إدراك حريته، لأن الحياة الإنسانية الحقة تبدأ من حيث تنتهي الحياة في صورتها الحيوانية، والواقع أن الحرية ليست مشكلة إلا لأن الإنسان عرضة في كل وقت، وفي كل لحظة من لحظات حياته الدنيا، لأن يفقد حريته وما سعيه الدائب إلى الله، وما أوباته المتكررة إلى ربه، إلا مجرد سعي إلى حريته، وهو إلى جانب ذلك أمان من أن يقع في عبودية: "مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ" "البقرة:170"، وهي عبودية السير في الركاب، أو عبودية العادة والاعتياد، أو عبودية السائد والتقاليد، وكلها عبوديات تأسر حرية الإنسان، ولا يفك إساره إلا عبودية واحدة، لرب واحد، هو الله خالق كل شيء، والقادر على كل شيء، والعليم بكل شيء، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، له الأسماء الحسنى وتعالى الله عما يشركون.
والإسلام يعتق الإنسان من كل صور العبودية لغير الله، وهو اعتقه بذلك من عبوديات جمة، وقدم له الحرية في معناها الأسمى، ليجعل منه إنسانا في صورته المثلى، حيث يكون بعبوديته لله، كائنا ربانيا "وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ"، ويرفعه صدق العبودية لله إلى منزلة أن يكون اللهُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها.
"عن موقع دار الخليج"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق