الثلاثاء، 31 يناير 2012

نساء تحدث عنهن القرآن (2)

صدقي البيك

من حواء إلى امرأة العزيز!



تعرضتُ في عددٍ سابق إلى النساء الطالحات اللاتي تحدث عنهنَّ القرآنُ الكريم؛ لنأخذ من مآلهنَّ في الدنيا والآخرة العظةَ والعِبْرة، وإذا كان عددهنَّ قليلاً فإنَّ عدد النساء الصالحات اللاتي تحدث عنهنَّ القرآنُ الكريم كبير، وهن جميعًا جديرات بأن تتخذهنَّ المسلمات قدوةً لهن في أعمالهن الصالحة ومواقفهن العظيمة.


1- وأول من تحدَّثَ عنها القرآنُ الكريم منهنَّ أمنا حواء:

التي لم يذكرها القرآنُ الكريم بالاسم، إنما ذكرها على أنها زوجُ أبينا آدم - عليه السلام.


وقد كانت سكنًا لزوجها، وجد عندها الاستقرارَ النفسي والمودة في الجنة، وكان لها دورٌ إلى جانب دور آدم في الخروج من الجنة والهبوط منها للعيش في الأرض، مع تحملِ العناء والشقاء في سبيل الحصول على حاجاتهما الضرورية، بعد أن كان ذلك موفرًا لهما في الجنة من غيرِ شقاء.


وإذا كانت كتبُ غيرِ المسلمين تحمل حواء وحدها المسؤولية في هذا الخروج، فتدَّعي أنَّها هي التي أكلت، وهي التي أغرتْ وأغوت آدمَ على مخالفة الأمر الإلهي، فإنَّ القرآنَ الكريم يجعلهما شريكين في المسؤوليةِ عن هذه المخالفة ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ [البقرة : 36]، ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا ﴾ [الأعراف : 20]، وأحيانًا يفردُ آدم بالمسؤولية، فيقول: ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ﴾ [طه : 120]، واشتركا في مسؤولية الأكل فأكلا منها، ولما ذاقا الشجرةَ بدت لهما سوءاتُهما، واستحقَّا بهذه المخالفةِ الإخراج من الجنَّةِ والشقاء في الأرض.


ولذلك فإنَّ النظرةَ الإسلامية إلى المرأةِ ومسؤوليتها الإنسانية ليست بحدةِ نظرة اليهود والنصارى، ويكنُّ الإسلامُ والمسلمون للمرأة كلَّ احترام وتقدير، ولا يحمل الذكورُ الإناثَ المسؤوليةَ الكبرى في شقاء البشرية في الحياة الدنيا، ولعلَّ شقاء الإنسان وتعبه في الأرض هو الذي طوَّرَ الوسائلَ، ودفع إلى الابتكار وإنتاج الحضارة المادية، والله خلق الخلقَ ليستعمرَهم في الأرض، وقد عمرها بعضُهم أكثر من بعض، فلا ينبغي أن يحسبَ الخروج من الجنَّةِ جريمة بحقِّ البشرية التي لم يكن لها أن توجدَ لو بقي آدم وزوجه في الجنة، وإن كان هذا الإخراجُ عقوبةً على ظلمٍ وقع فيه الزوجان ومخالفة لأمر الله استحقَّا عليها هذه العقوبة.


2- سارة وهاجر:

ومن النساءِ اللواتي أثنى عليهنَّ القرآنُ الكريم سارة، زوج إبراهيم الخليل - عليه السلام - وهاجر أم إسماعيل.


أمَّا سارة فهي من قريباتِ إبراهيم - عليه السلام - وقد آمنتْ وهاجرت معه إلى فلسطين، وقد قدَّمَ لها ملك مصر امرأةً لتخدمَها وتكون جارية لها؛ هي هاجر (أم إسماعيل)، وعندما أحستْ بتقدمِ سنِّها وبلوغها سن اليأس (عجوز عقيم) - ولحبِّها لزوجِها - زوَّجته من جاريتها لعلَّ الله يرزقه منها غلامًا، وقد كان ذلك، فقد حملت هاجر وولدت لإبراهيم إسماعيل - عليهما السلام - وأوحى الله إلى إبراهيم ما أوحى، فأخذ هاجرَ وابنَها إسماعيل من فلسطين إلى الحجازِ إلى الوادي غير ذي الزرع، إلى حيث مكة الآن، كما أمره الله - تعالى، وليس كما تقولُ التوراة متجنِّية على سارة؛ بأنَّها غارتْ منها، فطلبتْ من إبراهيم أن يطردَها ويرميها في برية بئرِ السَّبع، فهم يقولون في التوراة: "ورأت سارةُ ابنَ هاجر المصرية يمزح، فقالتْ لإبراهيم: اطرد هذه الجاريةَ وابنَها، فقبح الكلام جدًّا في عيني إبراهيم بسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجلِ الغلام ومن أجل جاريتك"!


كما أنهم يسيئون لهاجر، فيزعمون أنها "لما رأت أنها حبلت صغرت مولاتها في عينيها، فأذلتها ساراي، فهربت من وجهها"، عجبًا كيف يسيئون لامرأتين صالحتين، فهاجر زوجة إبراهيم وهي امرأةٌ مؤمنة بالله وثقتُها به عظيمة، فهي عندما تركها إبراهيمُ مع رضيعِها في وادٍ غير ذي زرع (مكة) قالت له: آلله أمرَكَ بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعُنا، وسارة امرأةٌ مؤمنة، وزوجةُ أبي الأنبياء أجلُّ وأسمى من أن تتصرَّفَ هذا التصرف، وتطلب من زوجِها أن يلقيَ في المهالك ولدَه وحيده يومئذ، وأمَّه! ولكن الذين يحرِّفون الكتابَ أو يكتبونه بأيديهم، يجعلون (أمَّهم) سارة بهذا الخلق السيئ، وهذا ديدنهم.


فسارةُ مؤمنة، يقول لها إبراهيم وهما في مصر: "والله ما على الأرضِ مؤمن غيري وغيرك"، وتظهرُ لها الملائكة - ضيف إبراهيم - بصورةِ الضيوف، ويبشرونها بإسحاق، ومن وراءِ إسحاق يعقوب، ولدًا لها تقرُّ به عينُها، وتسعد بحفيدِها منه، ويمجدها القرآنُ الكريم بمخاطبةِ الملائكة لها؛ ﴿ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ [هود : 73]، هذه المرأة الكريمة المباركة تحملُ أحقادَ النِّساء العاديات على ضرائرهن؟! وأغرب من ذلك أنَّ الله تعالى - في ادعائهم - يستجيبُ لأهواءِ سارة، ويرفض عدالة إبراهيم ورحمته بابنه، فإذا قبح طلبها في عيني إبراهيم فالله يقولُ له: لا يقبح (ذلك) في عينيك من أجلِ الغلام ومن أجل جاريتك!


وكاتبو التوراة يرون في أخذِ إبراهيم لهاجر وابنها إسماعيل إلى فاران (مكة) طردًا استجابةً لغيرة سارة، وأمَّا المسلمون فيرون كما قال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه أخذها إلى هناك استجابةً لأمرِ الله الذي طلبَ منه أن يسكنَها عند بيتِه المحرم ليقيموا الصلاة، فما أكبر الفرق بين نظرةِ المسلمين إلى هاجر وسارة وتقديرهم لهما، وبين النَّظرةِ الدنيَّة لكتبةِ التوراة إليهما.


3- امرأة العزيز:

وهذه امرأةٌ شغل الحديث عنها آيات كثيرة من سورة يوسف، إنها امرأة كانت ترفلُ في ثيابِ الترف والنعيم، وتتسلح بقوةِ السلطان، وتنهل من متعِ الحياة؛ حلالها وحرامها، فلا يمنعها مانعٌ أخلاقي من مراودةِ فتاها يوسف في صباه وجماله، ويحطم كبرياءها بعفتِه وورعه، فتتهمه بما ترتكبُه من إثم، وتزداد إصرارًا على إغوائه عندما يشيعُ خبرُها بين نساءِ المدينة، فتحيك له المؤامرةَ معهنَّ حتى يدخلنه السِّجن، لامتناعه عن مطاوعتهنَّ على الرذيلة، ولكنَّها وبعد بضعِ سنين تقف موقفًا فيه جرأة وصراحة، وفيه ندم واعتراف بالذَّنب (وتوبة)، وتبرئة لساحةِ يوسف - عليه السلام.


﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف : 51]، إنه اعترافٌ بالذنب وتبرئة لمن اتهمته وأدخلته السجن بريئًا، وزادت على ذلك أنْ علَّلتْ موقفَها هذا وعودتها إلى الحقِّ والصواب، فهي تكنُّ له كلَّ احترامٍ وتقدير، فتقول: ﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ﴾ [يوسف : 52]، وتعليل آخر تورده: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾، فهي تتراجعُ عن كيدِها ومؤامرتها عليه، وتعلن أنَّ الله هو الذي أحبطَ كيدَها، وهذا دليلٌ على أنها مؤمنةٌ بالله، وأنَّ الله غفورٌ رحيم وهو ربها؛ ﴿ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف : 53]، ولا تنسى أن تتواضعَ وتنفي عن نفسِها البراءة؛ لأنَّ النفسَ أمارة بالسوء: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ﴾.


وبعضُ التفاسير تشيرُ إلى أنَّها في النهايةِ تزوجها يوسف - عليه السلام - ففي حياةِ هذه المرأة عبرةٌ ودرس لمن يغويهنَّ الشيطان، فيبدأن حياةَ مجون ورذيلة وكيد وقذف واتهام، فمهما أسرفنَ على أنفسهنَّ، فالطريق إلى الله وإلى الصَّلاحِ واسع مفتوح، ورحمة الله واسعة لا يقنتُ منها العاقلات، وباب التوبة مفتوح تلجه كلُّ ذاتِ لبٍّ بعد أن تقرَّ بالخطأ وتتراجع عنه وتصدق نيتَها، وتبدأ حياة جديدة كلها إيمان وصلاح وتقوى وورع.

التوبة والإنابة قبل غلق الإجابة

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوبة شديد العقاب، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
فهذه رسالة لطيفة كتبها الإمام ابن رجب الحنبلي "رحمه الله"، في كتبه (لطائف المعرف لما لمواسم العام من الوظائف)، وفيها الحديث عن التوبة وعدم التسويف وترك داء طول الأمل، والاستعداد للموت وما بعده.

جعلها الله نافعة لناشرها وقارئها وسامعها، وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المعصية؟
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر).. [رواه الترمذي وحسنه الألباني]، دل هذا الحديث على قبول توبة الله عزّ وجلّ لعبده ما دامت روحه في جسده لم تبلغ الحلقوم والتراقي.

وقد دل القرآن على مثل ذلك أيضاً، قال الله عزّ وجلّ: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}... [النساء: 17].

وعمل السوء إذا أفرد دخل فيه جميع السيئات، صغيرها وكبيرها. والمراد بالجهالة الإقدام على عمل السوء، وإن علم صاحبه أنه سوء، فإن كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من أطاعه فهو عالم، وبيانه من وجهين:

أحدهما: أن من كان عالماً بالله تعالى وعظمته وكبريائه وجلاله فإنه يهابه ويخشاه، فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيانه، كما قال بعضهم: (لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه).

والثاني: أن من آثر المعصية على الطاعة فإنما حمله على ذلك جهله وظنه أنها تنفعه عاجلاً باستعجال لذتها، وإن كان عنده إيمان فهو يرجو التخلص من سوء عاقبتها بالتوبة في آخر عمره، وهذا جهل محض، فإنه يتعجل الإثم والخزي، ويفوته عز التقوى وثوابها ولذة الطاعة، وقد يتمكن من التوبة بعد ذلك، وقد يعاجله الموت بغتة، فهو كجائع أكل طعاماً مسموماً لدفع جوعه الحاضر، ورجا أن يتخلص متن ضرره بشرب الترياق بعده، وهذا لا يفعله إلا جاهل.

المبادرة:
روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ}... [النساء: 17]، قال: قبل المرض والموت، وهذا إشارة إلى أن أفضل أوقات التوبة، هو أن يبادر الإنسان بالتوبة في صحته قبل نزول المرض به حتى يتمكن حينئذ من العمل الصالح، ولذلك قرن الله تعالى التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة من القرآن.

وأيضاً فالتوبة في الصحة ورجاء الحياة تشبه الصدقة بالمال في الصحة ورجاء البقاء، والتوبة في المرض عند حضور أمارات الموت تشبه الصدقة بالمال عند الموت. فأين توبة هذا من توبة من يتوب من قريب وهو صحيح قوي قادر على عمل المعاصي، فيتركها خوفاً من الله عزّ وجلّ، ورجاء لثوابه، وإيثار لطاعته على معصيته.

فالتائب في صحته بمنزلة من هو راكب على متن جواده وبيده سيف مشهور، فهو يقدر على الكر والفر والقتال، وعلى الهرب من الملك وعصيانه، فإذا جاء على هذه الحال إلى بين يدي الملك ذليلاً له، طالباً لأمانه، صار بذلك من خواص المالك وأحبابه؛ لأنه جاءه طائعاً مختاراً له، راغباً في قربه وخدمته.

وأما من هو في أسر الملك، وفي رجله قيد وفي رقبته غل، فإنه إذا طلب الأمان من الملك فإنما يطلبه خوفاً على نفسه من الهلاك، وقد لا يكون محباً للملك، ولا مؤثرًا لرضاه، فهذا مثل من لا يتوب إلا في مرضه عند موته، لكن ملك الملوك، وأكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، لا يعجره هارب، ولا يفوته ذاهب، كما قيل: لا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه، ومع هذا فكل من طلب الأمن من عذابه من عباده أمنه على أي حال كان، إذا علم منه الصدق في طلبه.

وقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}... [النساء: 18]. فسوى بين من تاب عند الموت ومن مات من غير توبة. والمراد بالتوبة عند الموت التوبة عند انكشاف الغطاء، ومعاينة المحتضر أمور الآخرة، ومشاهدة الملائكة.

فإن الإيمان والتوبة وسائر الأعمال إنما تنفع بالغيب، فإذا كشف الغطاء وصار الغيب شهادة، لم ينفع الإيمان ولا التوبة على تلك الحال.

وقد قيل: إنه إنما منع من التوبة حينئذ؛ لأنه إذا انقطعت معرفته وذهل عقله، لم يتصور منه ندم ولا عزم؛ فإن الندم والعزم إنما يصح مع حضور العقل. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: (ما لم يغرغر) يعني إذا لم تبلغ روحه عند خروجها منه إلى حلقه.

فشبه ترددها في حلق المحتضر بما يتغرغر به الإنسان من الماء وغيره، ويردده في حلقه. وإلى ذلك الإشارة في القرآن بقوله عزّ وجلّ: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَ?كِن لَّا تُبْصِرُونَ}... [الواقعة: 83-85]، وبقوله عزّ وجلّ: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}... [القيامة: 26].

عش ما بدا لك سالماً *** في ظل شاهقة القصور
فإذا النفوس تقعقعت *** في ضيق حشرجة الصدور
هناك تعلم موقناً *** ما كنت إلا في غرور

الاستعداد للموت:
واعلم أن الإنسان ما دام يؤمل الحياة فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجيه الشيطان التوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت، وأيس من الحياة، أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم جيبنئذ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحاً، فلا يُجاب إلى شيء من ذلك، تجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت.

وقد حذر الله تعالى عباده من ذلك في كتابه، قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى? عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}... [الزمر: 54- 56].

سُمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم على وجهه ويقول: {يَا حَسْرَتى? عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ}... [سورة الزمر: 56]، وقال آخر عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي، وقال آخر عند موته: لا تغركم الحياة الدنيا كما غرتني.

وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}... [المؤمنون: 99- 100].

وقال تبارك وتعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}... [المنافقون: 10- 11].

قال الفضيل يقول الله عزّ وجلّ: (ابن آدم، إذا كنت تتقلب في نعمتي وأنت تتقلب في معصيتي فاحذرني لا أصرعك بين معاصي).

وقسم: يفني عمره في الغفلة والبطالة، ثم يوفق لعمل صالح فيموت عليه، وهذه حالة من عمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الحنة فيدخلها.

الأعمال بالخواتيم، وفي الحديث: «إذا أراد الله بعبد خيراً عسله»، قالوا: "ما عسله؟"، قال: «يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه».. [صححه الألباني].

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني».. [صححه الألباني].

وروي أن رجلاً من أشراف أهل البصرة كان منحدراً إليها في سفينة ومعه جارية له، فشرب يوماً، وغنته جاريته بعود لها، وكان معهم في السفينة فقير صالح، فقال له: يا فتى! تحسن مثل هذا؟ قال: أحسن ما هو أحسن منه. وقرأ: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} ..[النساء: 77- 78].

فرمى الرجل ما بيده من الشراب في الماء، وقال: أشهد أن هذا أحسن مما سمعت، فقل غير هذا؟ قال: نعم فتلا عليه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}... [الكهف: 29]، فوقعت من قلبه موقعاً، ورمى بالشراب في الماء، وكسر العود، ثم قال: يا فتى! هل هناك فرج؟ قال: نعم، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى? أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}... [الزمر: 53]. فصاح صيحة عظيمة، فنظروا إليه فإذا هو قد مات رحمه الله.

وبقي هنا قسم آخر، وهو أشرف الأقسام وأرفعها، وهو من يفني عمره في الطاعة، ثم ينبه على قرب الآجال، ليجدَّ في التزود ويتهيأ للرحيل بعمل يصلح للقاء، ويكون خاتمة للعمل، قال ابن عباس: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}... [النصر: 1]، نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، فأخذ في أشد ما كان اجتهاداً في أمر الآخرة.

وكان من عادته أن يعتكف في كل عام من رمضان عشراً، ويعرض القرآن على جبريل مرة، فاعتكف في ذلك العام عشرين يوماً، وعرض القرآن مرتين، وكان يقول: «ما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي» ثم حج حجة الوداع، وقال للناس: «خذوا عني مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا» [صححه الألباني]، وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع. ثم رجع إلى المدينة فخطب قبل وصوله، وقال: «أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب» [صححه الألباني]، ثم أمر بالتمسك بكتاب الله، ثم توفي بعد وصوله إلى المدينة بيسير صلى الله عليه وسلم: إذا كان سيد المحسنين يؤمر أن يختم عمره بالزيادة في الإحسان، فكيف يكون حال المسيء؟

خذ في جد فقد تولى العمر *** كم ذا التفريط قد تدانى الأمر
أقبل فعسى يقبل منه العذر *** كم تبني كم تنقض كم ذا الغدر
تأهب للذي لا بد منه *** من الموت الموكل بالعباد
أترضى أن تكون رفيق قوم *** لهم زاد وأنت بغير زاد
تب من خطاياك وابك خشية *** ما أثبت منها عليك في الكتاب
أية حال تكون حال فتى *** صار إلى ربه ولم يتب

فإن كان تأخير التوبة في حال الشاب قبيح، ففي حال المشيب أقبح وأقبح.

فإن نزل المرض بالعبد فتأخيره للتوبة حينئذ أقبح من كل قبيح؛ فإن المرض نذير الموت.

وينبغي لمن عاد مريضاً أن يذكره التوبة والاستغفار، فلا أحسن من ختام العمل بالتوبة والاستغفار؛ فإن كان العمل سيئاً كان كفارة له، وإن كان حسناً كان كالطابع عليه.

وفي حديث "سيد الاستغفار": من قاله إذا أصبح وإذا أمسى، ثم مات من يومه أو ليلته، كان من أهل الجنة. وليكثر في مرضه من ذكر الله عزّ وجلّ، خصوصاً كلمة التوحيد؛ فإنه من كانت آخر كلامه دخل الجنة. وكان السلف يرون أن من مات عقيب عمل صالح كصيام رمضان، أو عقيب حج أو عمرة أنه يُرجى له أن يدخل الجنة. وكانوا مع اجتهادهم في الصحة في الأعمال الصالحة يجددون التوبة والاستغفار عند الموت، ويختمون أعمالهم بالاستغفار وكلمة التوحيد.

يا غافل القلب عن ذكر الموت *** عما قليل ستثوي بين أموات
فأذكر محلك من قبل الحلول به *** وتب إلى الله من لهو ولذات
إن الحمام له وقت إلى أجل *** فأذكر مصائب أيام وساعات
لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها *** قد حان للموت يا ذا اللب أن يأتي

التوبة التوبة... قبل أن يصل إليكم من الموت النوبة، فيحصل المفرط على الندم والخيبة.

الإنابة الإنابة... قبل غلق الإجابة.

الإفاقة الإفاقة؛ فقد قرب وقت الفاقة.

ما أحسن قلق التواب... ما أحلى قدوم الغياب! ما أجمل وقوفهم بالباب.

من نزل به الشيب فهو بمنزلة الحامل التي تمت شهور حملها، فما تنتظر إلا الولادة، كذلك صاحب الشيب لا ينتظر غير الموت؛ فقبيح منه الإصرار على الذنب.

أي شيء تريد مني الذنوب *** شغفت بي فليس عني تغيب
ما يضر الذنوب لو أعتقتني *** رحمة بي فقد علاني المشيب

أيها العاصي، ما يقطع من صلاحك الطمع، ما نصبنا اليوم شرك المواعظ إلا لتقع.

إذا خرجت من المجلس وأنت عازم على التوبة. قالت ملائكة الرحمة: مرحباً وأهلاً، فإن قال لك رفقاؤك في المعصية: هلم إلينا، فقل لهم: كلا، خمر الهوى الذي عهدتموه قد استحال خلا.

يا من سود كتابه بالسيئات قد آن لك بالتوبة أن تمحو.

يا سكران القلب بالشهوات أما آن لفؤادك أن يصحو؟

وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.

نساء تحدث عنهن القرآن (1)

صدقي البيك

خلق الله - تعالى - آدمَ من طين، ثم جعل نسل البشرية كلها من آدم وحوَّاء (ذكر وأنثى)، فالمرأة عنصر أساس في الوجود البشري، ولها شأن في ذلك أكبر من دور الرجل؛ فهي التي تحمل أفراد البشرية في بطنها، وهي التي تتحمَّل الآلام في هذا الحمل، ومن ثَمَّ عند الوضع، ويستمرُّ دورها الفعَّال والمتميِّز بتقديم الغذاء والرعاية والعناية بالصِّغار؛ حتى تشتدَّ أعوادهم وتَقْوَى سواعدهم ويستغنوا عن الرعاية.
وقد كان للمرأة في القرآن الكريم دَوْرٌ في توجيه الأحكام إليها وتلقِّيها لهذه الأحكام الإلهيَّة، كما أن لها ذكرًا في كلِّ مجالٍ يذكر فيه العمل والأجر (للرجل والمرأة) فالله - تعالى - يقول: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
وكذلك يقول: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35].
فهنَّ مثْل الرِّجال في الأعمال الصالحة وفي الأُجُور والجزاء في الدنيا والآخِرة، فالنساء شقائق الرجال كما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل هن مُخاطَبات في كلِّ أمرٍ أو نهي يُوَجَّه إلى الناس أو إلى المسلمين أو المؤمنين أو الذين آمَنوا - من باب تَغلِيب الرجال على النساء في اللغة - وإذا كان لهنَّ هذا الحضور العامُّ في كلِّ خطابٍ للناس فإن لبعضهنَّ حضورًا خاصًّا في بعض آيات القرآن الكريم.
فقد تحدَّث القرآن الكريم حديثًا خاصًّا عن بعض النساء الصالحات أو غير الصالحات، وخصَّهن بالذِّكر، وقد بلغ عدد النساء اللاتي تحدَّث القرآن الكريم عنهنَّ حديثًا خاصًّا وبذكر الاسم أو الصفة سبع عشرة امرأة، ثلاث منهن كافرات طالِحات، وأربع عشرة منهن مؤمِنات صالحات، أمَّا النساء الكافرات الطالحات فهن:
1 - امرأة نوح:
وردَتْ إشارات غير مباشِرة عنها في قول الله - تعالى -: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ [المؤمنون: 27].
ففي قوله - تعالى -: ﴿ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ﴾ [المؤمنون: 27]، إشارة عامَّة إلى الذين لم يؤمنوا بدعوة نوحٍ - عليه السلام - من أهله؛ وهما ابنه وامرأته، كما يُفهَم ذلك من آيات أخرى صرَّحت بذكر امرأة نوح، وذلك في قوله - تعالى -: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ [التحريم: 10].
فامرأة نوح مثَلٌ للذين كفروا، وهي على رغم كونها زوجة لَصِيقة بزوجها نوح، لم تفتح قلبها لدعوته، وبقِيَتْ على ضلالات قومها، وتعلُّقها بأصنامهم المتعدِّدة، وكانت بذلك قد خانَتْ زوجها ودعوته، واستحقَّت بذلك عقوبتين:
الأولى: في الدنيا إذ غرقت مع الغارقين.
والثانية: في الآخرة؛ فكانت من أهل النار.
ولنا في هذا الموقف عِظَة وعبرة كبيرة، فإن الصلة الأسرية بالنبي أو بالصالحين من عِبَاد الله لا تُعطِي صاحبها أفضليَّة على الآخَرين ولا درجةً ولا قبولاً في الآخرة؛ ولذلك قال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُخاطِبًا ذوي قرابته: ((... اعملوا؛ فإني لا أُغنِي عنكم من الله شيئًا)).
فأقرباء النبي - عليه السلام - وأقرباء الصحابة أو ذوو الشأن والعُلَماء، لا يُغنِي عنهم هؤلاء من الله شيئًا، ما دام نبي الله نوح لم يغنِ عن زوجته شيئًا، ولم يمنع عنها عذاب الله، أمَّا إذا كانت مؤمنة صالحة وهي زوجةٌ لنبيٍّ فسيكون أجرها - بإذن الله - مضاعفًا، وكذلك كلُّ مَن له صلة قرابة بالصالحين لا يستغني بهم عن عمله الصالح أبدًا، وإذا وصل الأمر إلى حدِّ الكفر فلن تكون له شفاعة.
2 - امرأة لوط:
وهي مثَلٌ آخَر للذين كفروا، ولم يغنِ عنها كونها زوجة لنبيٍّ من أنبياء الله ما دامَتْ غير مؤمنة برسالته، وهي في هذه الآية السابقة حكم عليها بالكفر صراحة، وقد ورد ذكرها بصورة واضحة في ثماني آيات أُخرَيَات من سُوَرٍ متعدِّدة، وكلها يحكم عليها فيها بعدم السلامة من عذاب الله في الدنيا، وأنها سيُصِيبها ما يُصِيب قومها من عذاب الله ﴿ ... فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ... ﴾ [هود: 81].
والآيات الباقيات تجعلها مُستَثناةً من النجاة من عذاب الله في الدنيا، فقد تكفَّل الله للوطٍ وأهله بالنجاة؛ قال الله - تعالى -: ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [النمل: 57]، ﴿ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [الحجر: 60]، ﴿ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [الأعراف: 83] [العنكبوت: 22]، ﴿ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [العنكبوت: 33]، ﴿ إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ﴾ [الشعراء: 171]، [الصافات: 135].
3 - امرأة أبي لهب:
وهي زوجة عمِّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - (عبدالعُزَّى) الذي كان يُؤذِي رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتُشارِكه في ذلك زوجته، أذًى ماديًّا بنَثْرِ الشَّوْك في طريق الرسول - عليه السلام - وهو جارٌ لهم، وأذًى معنويًّا عندما عمِلاَ على تطليق ابنتيه اللتَين قد خطبتا لولديهما.
وهذه المرأة هي المعروفة بأمِّ جميل حمَّالة الحطب، كما وصَفَها القرآن الكريم، وقد خصَّها الله - تعالى - مع زوجها بإحدى قِصار السُّوَر وهي سورة المسد: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ [المسد: 1- 5].
وإذا كانت امرأة نوح - عليه السلام - تُمَثِّل الذين كفروا في أوائل الجنس البشري، فإن امرأة لوطٍ تُمَثِّل هذه الطائفة الكافرة في أواسط الجنس البشري، وتأتي امرأة أبي لهب لتكون هي وزوجها مثلاً لِمَن يكفر بالله وبرسوله ويعمل على أذى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أواخر عمر الجنس البشري ليكون نصيبها في الآخِرة نار جهنم التي سيصليانها، ولن تغني عن أبي لهب قرابته من رسول الله - عليه السلام - وهو عمُّه، ولن تغني عنه أيضًا وعن زوجته بعض الأعمال التي ظاهِرُها في أعين الناس أنها خير؛ كإعتاقه جاريةً له عندما بشَّرَتْه بمولد محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهمُّه أن يحمي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد وفاة عمِّه أبي طالب.

فهذه أعمالٌ غير صادِرَة عن إيمانٍ بالله؛ فهي إذًا هباء منثور، وهكذا نكون قد استعرضنا هذه النماذج الثلاثة لنساء كافرات خصَّهن الله بالذكر في القرآن الكريم؛ لتكون نهايتهن في الدنيا وعقابهن في الآخِرَة دروسًا وعظات يَعتَبِر بها أولو الأبصار.

توقير الكبير خلق الإسلام العظيم



لكبير السن مكانته المتميزة في المجتمع المسلم فهو يتعامل معه بكل توقير واحترام، يحدوه في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: "ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا" رواه أبو داود والترمذي.

ويظهر ذلك التوقير والاحترام في العديد من الممارسات العملية في حياة المجتمع المسلم، وجميع هذه الممارسات لها أصل شرعي، بل فيها حث وتوجيه نبوي فضلاً عن ممارساته صلى الله عليه وسلم، مع المسنين وتوجيه أصحابه نحو العناية بالمسنين وتوقيرهم واحترامهم وتقديمهم في أمور كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر:

1 ـ البدء بالكبير بالأمور كلها: كأن يتقدم الكبير على الصغير في صلاة الجماعة، وفي التحدث إلى الناس، وفي الأخذ والعطاء عند التعامل.. لما روي مسلم عن أبي مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليليني منكم أولو الأحلام والنهي (هم الرجال البالغون) ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وإياكم وهيشات الأسواق" أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللفظ والفتن فيها.

2 ـ الترهيب من استخفاف الصغير بالكبير: روى الطبراني في الكبير عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث لا يستخف بهم إلا منافق: ذو الشيبة في الإسلام، وذو العلم وإمام مقسط." والاستخفاف كأن يهزأ به ويسخر منه ويوجه كلاماً سيئاً إليه، ويسيء الأدب في حضرته، وينهر ه في وجهه وكم من مناظر يندي لها الجبين نشاهدها في الطرق ووسائل السفر المختلفة ونجبر على سماعها من داخل البيوت على ما يقال فيها تدمي لها القلوب.

3 ـ الحياء من الكبير: لأن الحياء خلق يبحث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق الكبير ويدفع إلى إعطاء ذي الحق حقه.

روى ابن ماجة والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه" وروى الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه قال "لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً فكنت أحفظ عنه فما يمنعني من القول إلا أن ها هنا رجالاً هم أسن مني".

4 ـ القيام للقادم: روى البخاري وأبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قال: "ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ في قيامها وقعودها ـ من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها وقبلته وأجلسته في مجلسها".

5 ـ تقبيل يد الكبير: أخرج أحمد والبخاري وأبو داود وابن الإعرابي عن زارع وكان في وفد "عبد القيس قال: لما قدمنا المدينة جعلنا نتبادر من رواحلنا، فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله.

وروى البخاري عن الوازع بن عامر قال: قدمنا فقيل ذلك رسول الله فأخذنا بيده ورجليه نقبلها.

لأن هذا له أثر كبير في نفوس الكبار وإنزالهم المنزلة التي تليق بهم مع مراعاة:
1 ـ ألا يغالوا في ذلك لما للمغالاة من تغاضي عن المساويء، ومجافاة للحق، وانتكاس لحقيقة الاحترام.
2 ـ ألا يزيدوا عن الحد الذي أمر به الشرع الإسلامي كالانحناء أثناء القيام، أو الركوع أثناء التقبيل.

6 ـ إنزال الكبير منزلته اللائقة به: روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن شهاب بن عباد أنه سمع بعض وفد عبدالقيس وهم يقولون: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتد فرحهم، فلما انتهينا إلى القوم أوسعوا لنا فقعدنا، فرحب بنا النبي صلى الله عليه وسلم ودعانا، ثم نظر إلينا، فقال: من سيدكم وزعيمكم؟ فأشرنا جميعاً إلى المنذر بن عائذ.. فلما دنا منه المنذر أوسع القوم له حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم.. فقعد عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرحب به وألطفه وسأله عن بلادهم..".

وهذا غيض من فيض وبعد، فإن توقير الكبير ذو الشيبة المسلم سمة من سمات المجتمع المسلم.

رعاية كبار السن من غير المسلمين:
لم تقتصر هذه الرعاية على المسن المسلم بل امتدت يد الرعاية لتشمل غير المسلم طالما أنه يعيش بين ظهراني المسلمين.

فها هي كتب التاريخ تسطر بأحرف ساطعة ، موقف عمر رضي الله عنه ـ مع ذلك الشيخ اليهودي الكبير فيذكر أبو يوسف في كتابة (الخراج) "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ مر بباب قوم وعليه سائل يسأل ـ شيخ كبير ضرير البصر فضرب عضده من خلفه فقال: من أي أهل الكتب أنت؟ قال يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية، والحاجة، والسن. قال: فأخذ عمر ـ رضي الله عنه ـ بيده فذهب به إلى منزله فرضخ له ـ أي أعطاه ـ من المنزل بشيء ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه، والله ما أنصفناه إذا أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم {إنما الصدقات للفقراء والمساكين..} سورة التوبة 60. .... وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه".

وبعد هل يمكن أن نؤثر الكبير في الجلوس في المكان المحدد له في وسيلة السفر والذي حددته الدولة أو المملكة أو الإمارة؟

هل يمكن أن نأخذ بأيديهم عند عبور الطريق؟ هل يمكن أن نقوم لهم عند حضورهم ونقبل أيديهم؟

هل يمكن إنهاء مصالحهم في أسرع وأيسر وقت مع البشاشة في وجوههم؟

هل يمكن أن نقوم على خدمتهم ونراعي فيهم تعاليم الإسلام ولاسيما إذا كانوا آباء أو أمهات؟ لأن دور المسنين تجأر إلى الله من عقوق الأبناء فما بال الذين لا يملكون دفع ثمن الإقامة فينامون في العراء ومن أنفقوا عليهم وقاموا على تربيتهم حتى وصلوا إلى المكانة المرموقة يتنعمون في المأكل والملبس والمشرب والفرش وظلم المعصية.

هل يمكن أن نصغي لحديثهم ففيه عبر السنين؟
نسأل الله أن يرزقنا حب القيام على خدمة ورعاية الكبار.

السبت، 28 يناير 2012

علماء الدين يطالبون بنشر فقه الوطن بين أبناء الأمة

محمد عبدالخالق

طالب علماء الدين، الشعوب الإسلامية بتفويت الفرصة على أعداء الأمة واستقامة الفكر وتقويمه وتوازنه وتنقيته من الإفراط والتفريط بما يحفظ المصالح العامة لأوطانهم. وأكد العلماء أن الشعارات وحدها لا تكفي لبناء الأوطان، وأن دعاوى الفتنة والتخريب تتعارض مع منهج الإسلام القويم الذي أعلى من قيمة الوطن وجعل حب الأوطان وحفظ أمنها واستقرارها من تمام الإيمان، مطالبين وسائل الإعلام ببيان أهمية وقاية المجتمع من مخاطر الفتنة والجريمة بكل أنواعها قبل وقوعها.

حول قيمة الوطن في الإسلام، قال الدكتور علي جمعة مفتي مصر، إن حب الأوطان، أحد أهم أسس بناء الأمم وصمام أمان المجتمعات، مشيراً إلى موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الهجرة وبكائه على ترك وطنه، مؤكداً أن حب الوطن فطرة بشرية أقرها الإسلام وجعلها من أسس بناء المجتمعات.

وطالب المسلمين بتوحيد الكلمة والهدف والإخلاص الكامل في النية والقول، والعمل من أجل تخطي تحديات هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الأمة، التي تعاني ضعفاً في مقومات وجودها وبقائها. وطالب بتطبيق المبادئ الحضارية لبناء الدولة الإسلامية الحديثة القائمة على تطبيق مفاهيم العدل والمساواة وعدم التفرقة أو التمييز أو العنصرية بين أي من البشر بسبب اللون أو الدين والترابط والتوافق والتناغم بين الشعوب الإسلامية.
أما الدكتور مبروك عطية أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر، فيحذر من شيوع الخطاب الديني الذي يجعل الحديث عن الأوطان أقرب إلى السياسة منه إلى الدين عند كثير من الناس.

الحديث عن الأوطان

وقال إن الحديث عن الأوطان من الدين، ومن جوانب خطابه فالله عز وجل أقسم بالبلد، وقال تعالى: “لا أقسم بهذا البلد”، وقال عز وجل “وهذا البلد الأمين”، واليوم نحن في أشد الحاجة إلى فقه الأوطان حتى نصون أوطاننا من الشدائد والمحن، التي تثور في الكثير من البلدان العربية ونتيجة اختلاف الرؤى والآراء والتناحر، وبروز الكثير من الأدعياء والطامعين والقاعدة الفقهية المعروفة تقول: “درء الأذى مقدم على جلب المنفعة”، والناس في حاجة إلى موعظة دائمة، ومن أجل ذلك شرعت خطبة الجمعة، تتكرر كل أسبوع لتذكر الناس بشرع الله الذي غايته أن يسعد الناس في الدنيا والآخرة، ولا سعادة للناس في الدنيا مع اضطراب الأوطان، وتمزقها، وإشعال النار فيها، والقضاء على الأخضر واليابس، الأمر الذي يهلك الاقتصاد، والمال، كما قال العلماء عصب الحياة وقوامها، ومن قديم قالوا: إذا ذهب مال المرء فقد ذهب عقله.

وأضاف الدكتور مبروك عطية أن حب الأوطان ليس قصيدة شعر، ولا شعارات تردد وإنما هو عمل يجب الحرص على ازدهاره، ودرء الفتنة عنه، والنهوض به في شتى المجالات، وأهمها الناحية الاقتصادية، لأن الله ـ عز وجل ـ يقول في سورة التوبة “كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة”،

ويقول سبحانه وتعالى في سورة الكهف “إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا”، فأعداؤنا إن غلبونا اقتصادياً فلن يرحمونا.

المفاهيم الإسلامية

وطالب الخطباء وعلماء الدين ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية بنشر تلك المفاهيم الإسلامية التي جعلت حب الأوطان من كمال الإيمان وفيه مستقرهم، ومستودعهم، وعماد حياتهم، وصيانة لأموالهم وأنفسهم وأعراضهم.

وقال إن للأوطان حرمتها في الدين بدءاً من البيت الصغير الذي أوجب الإسلام على زائره ألا يدخله من دون استئذان وسلام، بل إن قال له رب البيت: أرجع، رجع وهو أزكى له، “وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم”، وانتهاء بالوطن الكبير، الذي وعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من حرس فيه ثغرا ليلة واحدة كان من أهل الجنة، وعلى خطيب الجمعة والداعية وكل من له منبر يتحدث من خلاله أن يبين للناس أهمية وقاية المجتمع من مخاطر الفتنة والجريمة بكل أنواعها قبل وقوعها، وأنه لا حياة ولا انتشار في الأرض وهي نار، ودمار، ولا ابتغاء من فضل الله والمصالح معطلة، والطرق مقطوعة، ويذكرهم بأن الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يهتفون وهم يعملون، لا وهم يسدون الطرق:”اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا”، فإن هتفت وأنت في عملك فقد راعيت حرمة وطنك، ووصل صوتك وأنت منتج، وإن هتفت وقد عطلت عملك فما تسعى إليه من مكاسب أقل بكثير جداً من خسارة التعطيل للعمل والطرقات التي هي من فقه الأوطان، حيث جاء فيها: “حق الطريق أن تغض البصر، وتكف الأذى، وتأمر بالمعروف، وتنهي عن المنكر، وترد السلام على من عرفت ومن لم تعرف” وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، فكيف تكون مأمورا برفع الأذى عن الطريق وتكون أنت الأذى فيه.

وقال الشيخ محمد مصطفى عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين إن حب الوطن جزء من عقيدة المسلم ومن فطرة الإنسان التي فطره الله عليها، ومن ثوابت الدين، فقد قال الله تعالى على لسان فرعون: “إن هذا لساحر يريد أن يخرجكم من أرضكم”، وقال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية، أراد فرعون أن يثير قومه ضد موسى ودعوته فهز فيهم غريزة حب الوطن لعظم قدرها.

التضحية بالنفس

وأوضح أن القرآن ساوى بين حب الوطن والتضحية بالنفس فقال الله تعالي: “وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا”، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- مخاطباً مكة: “لولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت”، فحب الوطن من أعظم الأمور في حياة الإنسان.

وحول مكانة الوطن في الشريعة الإسلامية، يقول الدكتور محمد الدسوقي أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة، إن شريعة الإسلام جعلت الولاء والانتماء للوطن فريضة لازمة لا مناص منها، وأن يعمل كل إنسان لخير بلده، وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدم أكثر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها، وأن يقوم في ذلك الأقرب فالأقرب رحماً وجواراً، ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية وأعظمهم نفعاً لمواطنيه؛ لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين.

أما الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر السابق وعضو مجمع البحوث الإسلامية، فقد أكد أن شريعة الإسلام أولت قضية الولاء والانتماء للوطن اهتماماً كبيراً، حيث أكدت على إعلاء قيمة وشأن الأخوة بين المسلمين لإقامة مجتمع إسلامي قوي ومتماسك ،فقد أكد الله سبحانه وتعالى هذه القيمة السامية ودعا المسلمين للتمسك بها في قوله تعالى: “إنما المؤمنون إخوة”.

رسالة رسولنا محمد كفلت للبشرية سعادتها في الدنيا والآخرة

قال الله تعالى في كتابه الكريم، «لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ»، سورة آل عمران، الآية 164.

نحن نعيش في هذه الأيام في ظلال شهر كريم، هو شهر ربيع الأول، وعندما يهل هلال شهر ربيع الأول في كل عام، يتذكر المسلمون ذكرى ميلاد حبيبهم ورسولهم محمد، صلى الله عليه وسلم، فهي ذكرى غالية على قلوبهم، وعزيزة على نفوسهم، كيف لا وهو رسول البشرية بأسرها، ومثال الإنسانية في أتم صورها، فهو رحمة الله للعالمين، وخاتم النبيين، عليه الصلاة والسلام، فقد كان مولده، عليه الصلاة والسلام إيذاناً بالنور الساطع الذي بدد ظلمات الجاهلية وعبادة الأصنام، كما قال الله تعالى: (قَدْ جَاءكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ)، “سورة المائدة، الآية 15”، فالنور هو محمد صلى الله عليه وسلم ، والكتاب المبين هو المعجزة الخالدة (القرآن الكريم)، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم قد قضى على مظاهر الشرك والإباحية والطغيان، فحرم القتل والزنا والخمر وكل المنكرات، وزلزل العروش العاتية، فكانت اليرموك وفيها القضاء على القياصرة، وكانت القادسية وفيها القضاء على الأكاسرة، كما كان - عليه الصلاة والسلام - بشير خير للبشرية، يبشر بقيام دولة عادلة وأمة راشدة، هي خير الأمم التي أخرجت للناس.

من نعم الله
إن ميلاد نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، نعمة أنعم الله بها على الإنسانية، حيث يجب عليهم أن يشكروا هذه النعمة؛ لأنه، صلى الله عليه وسلم، يهديهم إلى الصراط المستقيم، فقد صنعه الله على عينه، وأحاطه برعايته، وشمله بلطفه ورحمته، وخصه بعميم فضله وكرامته، حيث إن الرسالة التي جاء بها محمد، صلى الله عليه وسلم، رسالة كفلت للبشرية سعادتها في الدنيا والآخرة.

كما قال ربعي بن عامر - رضي الله عنه: “إن الله قد ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل وسماحة الإسلام”.
ولم يعرف التاريخ قديمه أو حديثه شخصية أبعد أثراً في النفوس، وأعمق تأثيراً في القلوب من محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي نال منزلة دونها كل منزلة، واستأثر بحب يتضاءل أمامه كل حب، سوى حب الله سبحانه وتعالى.

من فضائل النبي
لقد فضل الله سبحانه وتعالى بعض الأنبياء على بعض كما في قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)، “سورة البقرة، الآية 253”.

ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد كلم سيدنا موسى - عليه الصلاة والسلام - من وراء حجاب، ولكنه في ليلة الإسراء المعراج كلّم نبينا - صلى الله عليه وسلم - بغير حجاب، كما أن سيدنا موسى - عليه الصلاة والسلام - يقول لربه: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)، “سورة طه، الآية 25”، والله سبحانه وتعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)، “الشرح الآية 1”، كما أن سيدنا موسى - عليه الصلاة والسلام - يقول لربه: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)، “سورة طه، الآية 84”، والله عز وجل قال لحبيبه - صلى الله عليه وسلم -: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)، “سورة الضحى، الآية 5”.

وعند دراستنا للسيرة النبوية الشريفة، نجد أن فضائل رسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم - لا تُعَدُّ ولا تحصى، ومنها:-

◆ تفضيله - صلى الله عليه وسلم - على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : “فُضِّلتُ على الأنبياء بستٍّ: أعطيتُ جوامعَ الكَلِمِ، ونُصِرْتُ بالرعب، وأُحِلَّتْ ليَ الغنائم، وَجُعِلتْ ليَ الأرضُ طهوراً ومسجداً، وَأُرسْلِتُ إلى الخلقِ كافَّة، وخُتم بيَ النبيُّونَ”، (أخرجه مسلم).
◆ وهو - صلى الله عليه وسلم - الأسوة الحسنة لكل إنسان يرجو الله والفوز بجنته والنجاة من ناره، كما قال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، “سورة الأحزاب، الآية 21” فهو الأسوة الحسنة للأب، والجد، والزوج، والمربي، والطبيب، والقائد، وولي الأمر، فهو الرحمة المهداة - صلى الله عليه وسلم-.

◆ كما أنه - صلى الله عليه وسلم - سَيْدُ البشر يوم القيامة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: “أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواءُ الحمد ولا فخر، وما من نبيٍّ يومئذ آدمَ فَمَنْ سواه إلا تحت لوائي، وأنا أوَّلُ شَافعٍ وأَوَّلُ مُشفَّعٍ ولا فخر”، (أخرجه أحمد).
◆ ومن المعلوم أن الله قد شرح صدره - صلى الله عليه وسلم - ووضع وزره، ورفع ذكره قال تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ , وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ , الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ , وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)، “سورة الشرح، الآيات 1 - 4”.
قال قتادة: “رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس هناك خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله”، وكما قال الشاعر:
وَضَمَّ الإلهُ اسمَ النبي إلى اسمه
إذ قال في الخمسِِ المؤذنُ أشهدُ

وَشَقَّ له من اسمِه لِيُجِلـَّهُ
فذو العرشِ محمودٌ وهذا مُحَمَّدُ

◆ كما مدح الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - بما أكرمه به من مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، كما في قوله سبحانه وتعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، “سورة القلم، الآية 4”، وقوله - صلى الله عليه وسلم- : “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، (أخرجه الطبراني).

محبته
وذكرت كتب السيرة أن الصحابي الجليل ثوبان، رضي الله عنه، كان خادماً للرسول، صلى الله عليه وسلم ، وقد دخل عليه - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فوجده يبكي، فسأله: (ما يبكيك يا ثوبان)؟
فقال: يا رسول الله، أبكي لأنك إذا غبتَ عني اشتقتُ إليك، فإذا تذكرتُ الآخرة وأنك ستكون في أعلى درجات الجنة، ولن أراك فيها ازداد بكائي شوقاً إليك يا حبيب الله.
(كما وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محزون، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: “يا فُلان ما لي أَرَاكَ مَحْزُوناً؟
“فقال: يا نبيَّ الله، شيء فكرت فيه، فقال ما هو؟ قال: نحن نغدو ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين، فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، فأتاه جبريل بهذه الآية (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم منَ النَّبِيِّينَ) الآية، فبعث النبي - صلى لله عليه وسلم - فبشره.

وعن عائشة، قالت: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! إنك لأحب إليَّ من نفسي، وأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتيك، فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلتَ الجنة رفعتَ مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت عليه: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)، “مختصر تفسير ابن كثير للصابوني 1/412”.

الدكتور يوسف جمعة سلامة

خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك

العلماء يحذرون من التشكيك في النوايا على المنتديات

عمرو أبوالفضل

من الظواهر الخطيرة التي برزت مؤخراً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية شيوع خطاب التكفير والتفسيق، والانجراف إلى التشكيك في النوايا والتصرفات، والسخرية والاستفزاز بين أبناء الوطن الواحد، بما لا يرضاه الشرع من ألقاب وأوصاف، في المنتديات والمحافل وعلى المنابر وفي الفضائيات والمواقع الإلكترونية، خاصة الدعوية التي يجب أن تكون دعوات محبة ووئام لا وسائل بغض وخصام وشقاق.

قال الدكتور محمد الدسوقي، أستاذ الفقه بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، إن الكلمة أمانة ومسؤولية سوف يحاسب عليها الإنسان سواء في أمور الدنيا أو ما يتعلق بالآخرة، والنصوص المؤكدة لمسؤولية الكلمة كثيرة، منها قول الرسول-صلى الله عليه وسلم:”من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت”، وتطبيق الحديث في حياتنا يجنبنا الكثير من المآسي.

وحذر من خطورة التعامل مع ما يصدر من أقوال وآراء واعتبارها أحكاماً شرعية ملزمة، لافتاً إلى أهمية التفرقة بين الأحاديث التي تقال في البرامج أو دروس العلم أو المواقع الإلكترونية، وتعد اجتهادات أو مجرد قناعات شخصية أو آراء سياسية، والأحكام والفتاوى الشرعية التي درست وبحثت علمياً وشرعياً من المجامع والمؤسسات الفقهية وأهل الاختصاص من العلماء.
مسؤولية الكلمة
وقال إن البعض يتهاون في مسؤولية الكلمة، ويرمي الكلام على عواهنه، بلا تقدير لمراميه ومخاطره وعواقبه، ويتسبب في نشر الخصومات والفتن بين الناس، مشيراً إلى أنه يجب أن يدرك العلماء والدعاة أن لهم تأثيرا ومكانة، وأنهم محط اهتمام وملء السمع والبصر، والناس يقدرون ما يقولون ويتبعونه، وعليهم أن يتعلموا من الصديق أبي بكر الذي كان كثيراً ما يمسك بطرف لسانه، ويقول:”هذا الذي أوردني الموارد”، وأن يقتدوا بالإمام أحمد ومحنته وتحمله الظلم والعدوان، ورفضه أن تحدث الفتنة بسببه.

وأكد أنه لا يجوز للمسلم أن يكون مغتاباً أو نماماً أو همازاً أو لمازاً أو داعياً الى فتنة أو بغضاء، موضحا أن اللغو والزور والكذب والنفاق والتملق انحراف وفساد وبغي يمزق المجتمعات، ويغري اصحاب النفوس الضعيفة بالظلم، والصد عن سبيل الحق، ونشر الأكاذيب بين الناس، والرسول-صلى الله عليه وسلم- يقول:”لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه”.

حسن الخلق

ويقول الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، إن الهدي النبوي في حسن الخلق ومراعاة التثبت والضبط فيما يقال يستوجب من الجميع، خاصة أهل الدعوة، الالتزام الموضوعي، عملاً وتطبيقاً والتزاماً لموافقة الأفعال والأقوال لدى أهل الاتباع الصادق الحقيقي وقدوة للآخرين، دل على هذا قول الله تعالى:”لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” الصف، مؤكداً أن الهدي النبوي الذي يجب على الدعاة أن يضعوه نصب أعينهم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم:” وان أبغضكم اليَّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون”، فقالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين، فما المتفيقهون؟، قال:”المتكبرون”، وقال الإمام النووي-رحمه الله- الثرثار هو كثير الكلام تكلفاً، والمتشدق المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحا وتعظيما لكلامه، والمتفيقه هو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه ويغرب به تكبراً وارتفاعا واظهاراً للفضيلة على غيره.

العمل الدعوي

وبين أن الحديث الشريف ينطبق على بعض الرموز الدعوية وأتباعهم من الذين يتصدرون العمل الدعوي والعام، مضيفا أن خطاب التفسيق والتشريك وغيره من العبارات المنفلتة تدل على تصرفات أن لم تكن عين الحماقة فهي إليها أقرب، ومما يبعث على الغرابة صدور ذلك من رموز من المفترض محافظتها على الكلمة الطيبة التي ضرب الله عز وجل لها المثل:”كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء”، واجتنابها للكلمة الخبيثة:”كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار”.

وقال إن واجب من يتصدرون الدعوة والعمل العام أن ينأوا بأنفسهم عن عبارات التجريح والاستهزاء والتعرض بالغمز واللمز، موضحاً أن نصوص الشرع تحرم وتجرم تفرق المجتمع الى طوائف وعصبيات سواء كانت منسوبة إلى الدين أو غيره، منها قول الله تعالى:”ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء انما أمرهم الى الله ثم ينبئهم بما كانوا يعملون” الانعام 159، وقول سيدنا محمد-صلى الله عليه وسلم:” ليس منا من دعا الى عصبية”.

وأوضح إن احتكار تيار أو فرقة الحق والصواب وتخطئة من سواها استدلال فاسد واستشهاد سقيم بنصوص شرعية لتبرير المذهب والسعي الحثيث لصبغ المجتمع به، وممارسة عمل سياسي قلباً وقالباً تحت غطاء ديني، مبيناً أن كل هؤلاء ومن يمثلهم ويناظرهم يعتدون على الدلالات السليمة الصحيحة للنصوص الشرعية والمبادئ والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية لإعلاء أدبيات وأجندات مصلحية، وهذا كله ولد عنفاً فكرياً وسبب حيرة وبلبلة لدى الناس، وصارت مساجد ومعاهد ووسائل إعلام وفضائيات تشهد مجادلات ومهاترات ومصادمات يندى له الجبين.

وأكد أن الفكر المعلول يجابه بالفكر الصحيح من أهله، وأن واجب العلماء والدعاة والفقهاء المخلصين المسارعة لانقاذ صحيح الدين واعلاء وسطيته والدعوة الى الثقافة الإسلامية السمحة بعيداً عن الانتماءات المذهبية والسياسية، ورفض أفكار التصدير المذهبي والعصبيات المقيتة.

النصوص الشرعية

وأكد الدكتور حمدي مصطفى، أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر، أن الشريعة الاسلامية حذرت من التهاون في إطلاق الفاظ التفسيق والتكفير والتضليل والمسارعة الى استعمال تلك الأوصاف بين المسلمين.
وقال إن النصوص الشرعية تواترت على رفض التساهل في إطلاق تلك الاوصاف على المسلم في قول الرسول- عليه الصلاة والسلام:” إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا”، وأيضا قوله-صلى الله عليه وسلم:” ومن رمي مؤمنا بكفر فهو كقتله”، وقوله- عليه الصلاة والسلام:” لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك”.

وأوضح أنه يجب الاحتياط الشديد في إطلاق الأوصاف التي تقدح في الايمان وعلاقة الانسان بخالقه وتؤدي الى التجاوز والاعتداء. وأشار الى أن مقاصد الشريعة من هذا التحذير إنما حرصت على سد أبواب الفتن ومنع استغلال تلك الأوصاف وإطلاقها على غير من يستحقها وتحقيق العدل بين المسلمين.

وقال إن ظاهرة التكفير والتفسيق والضلال والانحراف من الآفات الخطيرة التي ظهرت في مجتمعاتنا، خاصة في السجالات الفكرية والحوارية، مبيناً أن رمي الإنسان واتهامه بهذا التهم الشنيعة يجرده من حقوقه كافة، ويعرضه للإهانة والقتل والطرد من المجتمع، ويتعرض تماسك المجتمع الإسلامي إلى الفرقة.

ميلاد النبي ذكرى لإشعاع نور الهداية الربانية على العالم

إنَّ المتأمل في ميلاد النبي، صلى الله عليه وسلم، يجده ذكرى لإشعاع نور الهداية الربانية على العالم والبشرية جمعاء، ذلكم النور الذي يحمل مستويات عدة في إشراقه على الكون والوجود كله. فهناك النور المتمثل في الشخصية النبوية المطهرة، وهُناك نور النبوة وإشراق الرسالة، الذي أخرج به الله سبحانه العالم من الظلمات إلى النور، ومن الهداية إلى الرشاد، يقول سبحانه (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ، وحقاً ما قيل:

أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له
وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
ومعنى ذلك أن مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، ورسالته يؤذن بأنها جاءت لتجعل البشرية تعيش في كنف الله تعالى ورعايته التي بها يتطلع الناس في كل أمر من أمورهم إلى وحى منزل من عند الله، به يتحركون، وبه تقوم حياتهم على تقوى من الله ورضوان يستشعرون فيه يد الحنو والرحمة التي تمتد إليهم في كل وقت وحين، آناء الليل وأطراف النهار، لتأخذ بنواصيهم إلى طريق الله عز وجل، وتقود خطاهم إلى صراط الله المستقيم.

ولعلَّ السر في ذلك أن قائد البشرية صلوات الله وسلامه عليه قد صنع على عين الله، وأدب بتأديب الله، وأعد برسالته وفق منهج خاص موحى به من الله تعالى. يقول سبحانه (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلا إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا).

وسائل الإعداد

ومعنى ذلك ووفق هذه الآيات أن الحق سبحانه وتعالى قد دبر لنبيه، صلى الله عليه وسلم، هذه الفترة التربوية ليعده فيها، لحمل الأمانة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية التي قوامها كما نطقت الآيات، قيام بالليل إذا ما غارت النجوم ونامت الجفون، وترتيل للقرآن في عصر افتقد الناس فيه الوحي من السماء، وذكر لله في زمن اتخذ الناس فيه الأوثان والأصنام أرباباً من دون الله عز وجل، كل ذلك يأتيه النبي صلى الله عليه وسلم في خلوة تعبدية قوامها التبتل لرب الأرض والسماء لتصفو النفس وتشرئب الروح لاستقبال هدى السماء. وكأنَّ الحق سبحانه وتعالى في هذه الآيات يريد أن يقول: إن اتصال النبي، صلى الله عليه وسلم، بالملأ الأعلى سيستمر لتبليغ شرع الله إلى كافة خلق الله. وهذا الاتصال لا بد أن تسبقه تهيئة خاصة يتم فيها تمام التجرد وطلاقته لله لتستوعب بذلك الروح الطاهرة فيوضات الأنس الإلهي، والمدد الرباني حتى تتصل بطهرها إلى الله سبحانه فتذوب بذلك كل العلائق الحسية، والمعاني الأرضية، فتصفى النفس من الهانات والصغائر التي لا تتفق مع نورانية الحق سبحانه، والجلال الأكبر لله رب العالمين.
منهج تدريبي

ومعنى ذلك أن ما أمر به النبي، صلى الله عليه وسلم، من ربه هو في حقيقته تربية وإعداد وفق منهج تدريبي محكم يتصل فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، بخالقه والناس نيام، ذاكراً فيه اسم ربه ومولاه، وقد سكن الوجود وغاب النائمون، فيرتل القرآن ترتيلا ويصل بعذب صوته النبوي أجواء الأرض بأسماع السماء.
ووفق ذلك المنهج يمضى رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فيقوم الليل إلا قليلا، ويرتل فيه القرآن ترتيلا، ويلهج لسانه بذكر ربه بكرة وأصيلا. وهنا تأتى المرحلة الجديدة التي تحمل في طيها التشريف والتكليف، والتنفيذ والقيام بأعباء الوظيفة التي لأجلها صنع النبي، صلى الله عليه وسلم، على عين الله، وربى وفق حكمته ومنهجه، والتي يقول الحق سبحانه وتعالى عنها (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر قُمْ فَأَنذِر). وهنا تبدأ رحلة الدعوة إلى الله، والمتأمل في آيات القرآن الكريم يجد أن الدعوة إلى الله سبحانه قد أتت وفق مراحل أربع: الأولى وهى التي عبر الحق سبحانه وتعالى في الآية السابقة، وتمثل هذه المرحلة دور العمل السري، وإعداد القيادة التي تتحمل مع النبي، صلى الله عليه وسلم، نشر الدعوة وتبليغ الرسالة، فربى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة رجالاً استعذبت أرواحهم رسالة الإسلام فمنحوها النفس والنفيس، وآثروها على الوجود كله حتى سموا بأنفسهم فوق المجتمع الجاهلي بماديته ومعنوياته. أما المرحلة الثانية، فيعبر عنها الحق سبحانه وتعالى بقوله (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ). وتمثل هذه المرحلة كما يقول العلماء بداية العمل الجهري، ففيها أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بالجهر بالدعوة، وعلة ذلك أن إنذار الأقربين من عشيرته، صلى الله عليه وسلم، إيذان بإقامة الحجة عليهم.

الحجة

ومعنى ذلك أن الحجة إذا ما قامت على عشيرته وأقربائه صلى الله عليه وسلم تعدت إلى غيرهم، يروى الإمام الطبري والإمام البيهقي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، صعد على الصفا - فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بنى عدي... لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو..؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا، قال أنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد. وبهذا يثبت أن نقل الدعوة من طورها السرى إلى طورها الجهري كان بإذن من عند الله حيث أمر - صلى الله عليه وسلم - بأن ينذر عشيرته الأقربين، فثبت أن الدعوة تسير في رعاية الله وكنفه. المرحلة الثالثة ويعبر عنها الحق سبحانه وتعالى بقوله (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا). ويقصد بها كما قال العلماء “مكة ومن حولها شرقاً وغرباً”.

يروى ابن هشام في سيرته أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين لهم ما بعث به من قبل خالقه ومولاه، ويبلغ رسالة ربه ولهم الجنة فلا يجد أحداً ينصره أو يجيبه فعل ذلك مع بنو كلب وبنو حنيفة، وذهب بذلك إلى الطائف وأهلها فلم يجد إجابة إلا من نفر من الأنصار آمنوا به وصدقوه فلما قدموا المدينة إلى قومهم كانوا خير سفراء لدين الله حتى فشا الإسلام فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك تم توصيل الدعوة إلى ربوع الأمة العربية.
نعم رفضها المطموسون بظلام الجاهلية، ولكن قبلها المشركون بصفاء النفس، الممنوحون نعمة السمع حتى شاء الله لهم أن يكونوا لها أجناداً مصطفين أخياراً، والله ذو الفضل العظيم. وتأتى المرحلة الرابعة وهى التي عبر الحق سبحانه وتعالى بقوله (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور). وهى مرحلة عالمية الدعوة، حيث جمع النبي صلى الله عليه وسلم قومه ثانياً ثم خطبهم قائلاً: إنَّ الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة.

وهذا إعلان لعالمية الدعوة إلى الله التي تمثل قانون الله تعالى للإنسان. يقول سبحانه (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ).

ويقول سبحانه (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِه وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، ثم تأتى الهجرة بعد ذلك إلى الحبشة وإلى المدينة لتكون بمثابة التطبيق العملي لتلك العالمية التي أعلنت عنها آيات القرآن الكريم.

د. محمد عبد الرحيم البيومي

ادعاء الزوجة عدم وصول نفقتها يبقيها في ذمة الزوج

أحمد شعبان

من قواعد الفقه المهمة«الأصل بقاء ما كان على ما كان» وهي من القواعد التي يعول عليها كثير من الفقهاء في المسائل.
وقال الدكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر«الأصل بقاء ما كان على ما كان»، الأصل في اللغة: ما يستند إليه غيره ويبني عليه ويتفرع عنه.

أما في الاصطلاح فله معان كثيرة منها: إن القانون والقاعدة ينطبقان على جزئياتهما، أو المستصحب، وهو الحالة الماضية، ويسميه بعض العلماء بالاستصحاب، وهو اعتبار الحالة الثابتة في وقت ما مستمرة في سائر الأوقات حتى يثبت انقطاعها أوتبدلها.

معنى القاعدة
وبذلك يكون معنى القاعدة: إنه إذا جهل في وقت الخصومة حال الشيء وليس هناك دليل يحكم بمقتضاه، وكان لذلك الشيء حال سابقة معهودة، فإن الأصل أن يحكم ببقائه واستمراره على تلك الحال المعهودة التي كان عليها حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك فيصار إليه. وهذه القاعدة الفقهية متفرعة على قاعدة اخرى كلية هي «اليقين لا يزول بالشك».

وقاعدة «الأصل بقاء ما كان على ما كان» تعتبر من القواعد المهمة التي يرجع إليها الفقيه والمجتهد والقاضي في حل كثير من المنازعات.
ومن لطائف هذه القاعدة الفقهية: إنه لو ادعت الزوجة على زوجها عدم وصول النفقة المقدرة لها، وادعى الزوج الإيصال، فالقول قول الزوجة بيمينها، لأن الأصل بقاؤها في ذمته، حتى يقوم دليل على خلاف ذلك.

ومن لطائف هذه القاعدة أيضاً: لو سئل المجتهد عن حكم عقد أو تصرف، ولم يجد نصاً في القرآن، أو السنة ينص على حكم معين لهذا العقد أو هذا التصرف، حكم بإباحة هذا العقد أو هذا التصرف، بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة، مالم يقم دليل يغير هذا الأصل.

وكذلك إذا سُئل عن حكم حيوان، أو جماد، أو نبات أو أي طعام أو شراب أو أي عمل من الأعمال، ولم يجد دليلاً شرعياً على حكمه حكم بإباحته لأن الإباحة هي الأصل، ما لم يقم دليل على التغيير.

والدليل على ذلك قول الله تعالى: “هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى الى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم” البقرة الآية 29.

وقال تعالى “وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” الجاثية الآية 13. أي لا يكون ما في الأرض مخلوقاً للناس ومسخراً لهم إلا إذا كان مباحاً لهم.

البينة

ومن أمثلة هذه القاعدة: فإذا حكم بإسلام شخص فلا ينتقل منه إلى الكفر إلا ببينة إذ الأصل بقاء ما كان، وهو الإسلام، وقد أخطأ من ادعى إحدى الشخصيات المشهورة عند موتها، إذ الأصل هنا بقاء ما كان على ما كان، والأصل أنها ليست مسلمة وتجري هذه القاعدة على ظاهرها.

كما أنه لو حكم بطهارة بقعة أو ثوب وهو الأصل، فلا ينتقل عن هذا الاصل بمجرد الشك إذاً الأصل بقاء ما كان وهو الطهارة.

ومثله لو أكل المسلم الصائم وهو يظن أن الفجر لم يطلع ويظن بقاء الليل فلا شيء عليه، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وهو بقاء الليل ليلاً، وكذا لو شك في غروب الشمس فإنه يقال له: الأصل هو النهار حتى يتيقن غروب الشمس.

فتاوى

يجيب عنها المركز الرسمي للإفتاء
تلاوة القرآن
ما آداب تلاوة القرآن؟
لتلاوة القرآن الكريم آداب ينبغي العمل بها ومراعاتها ليزيد ثواب القارئ والتالي لكتاب الله تعالى، فمن هذه الآداب طهارة البدن واللباس والمكان، ثم إخلاص النية لله عند تلاوة القرآن، واستقبال القبلة وتنظيف الفم باستعمال السواك، وعدم العبث بشيء أثناء التلاوة ليستحضر الخشوع.

ثم الاستعاذة بالله تعالى عند بدء التلاوة، لقوله تعالى «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» النحل 98، ثم يبدأ بالبسملة في مطلع كل سورة سوى سورة «براءة»، ثم إذا بدأ القراءة بعد البسملة حرص على تجويدها وترتيلها كما قال الله تعالى قال تعالى «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» المزمل، 4.
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن، وهو يتحدث عن آداب التلاوة: (يستحب للقارئ في غير الصلاة أن يستقبل القبلة، فقد جاء في الحديث خير المجالس ما استقبل به القبلة ويجلس متخشعا بسكينة ووقار مطرقا رأسه، فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة والدلائل عليه أكثر من أن تحصر وأشهر وأظهر من أن تذكر فهو المقصود المطلوب وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب، قال الله عز وجل «أفلا يتدبرون القرآن»، وقال تعالى «كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته»).
الموظف المقصر
أنا مسؤولة عن موظفات، إحداهن لا تنجز عملها، وحاولنا تعليمها، دون أي فائدة، فهل إنهاء خدماتها «قطع رزق»؟
من مبادئ العدل الوظيفي مبدأ المكافأة والعقوبة، فالمكافأة لمن أتقن العمل، والعقوبة لمن قصر فيه، ويشهد لهذا المبدأ قول الله تعالى «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» سورة النحل الآية رقم 90، وقوله تعالى «وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى» سورة النجم 39-41، وعليك أن تؤدي عملك على الوجه الأكمل دون ظلم لأحد، ولا تقصير في العمل، فالممنوع إنما هو ظلم الموظف بعدم إنصافه، أو إعداد التقارير المزورة عليه، أو أي نوع من أنواع تضييع حقه، وأما إعداد التقارير الصحيحة التي تبين مدى عمل كل موظف، ومدى تقصيره أو إتقانه في العمل، فهذا من العدل الذي أمر الله سبحانه وتعالى به، حتى ولو ترتب عليه إنهاء خدمة الموظف، بل من الظلم سكوت المسؤول عن تقصير الموظف التابع له بعد علمه بذلك، فهذا ظلم للمؤسسة التي ائتمنت هذا المسؤول على تقييم أداء موظفيها، وكذلك فيه ظلم من جهة أنه يسوي بين من يعمل بشكل صحيح ومن لا يعمل، ومن جهة أخرى فإنه ينبغي ملاحظة أن هذه التقارير يتم على أساسها الترقية من عدمها، والاستمرار في العمل من عدمه، وبالتالي يجب على من يُعدها أن يراعي صدقها ونزاهتها لما يترتب عليها من منافع ومضار.
وإن إنهاء خدمة الموظف الذي لا يصلح لوظيفته ليس ظلماً ولا قطعاً للرزق.
هدايا الموظف
أنا موظف وبعض العملاء يعطونني مبالغ مالية وهدايا، وأخبرت صاحب العمل بذلك ووافق، فما الحكم الشرعي؟
الهدايا التي تعطى للموظف ثلاثة أنواع: الأول: الهدية التي تكون سبباً في المحاباة في المعاملة والظلم والحيف، فهذا النوع من الهدايا محرم قطعاً.
الثاني: الهدايا التي يأخذها الموظف دون اتفاق بينه وبين العميل، وفي أغلب الأحيان تكون بعد انتهاء الخدمة المقدمة من طرف الموظف، وهذا النوع من الهدايا لا حرج في قبولها بعد استئذان صاحب العمل إذا لم يترتب عليها إخلال بحق أو سكوت على باطل. الثالث: الهدايا التي يأخذها الموظف من أشخاص كانت له علاقة سابقة على العمل، أي لم يكن سبب هذه الهدايا الوظيفة، ولا كون الموظف موجوداً في هذه المؤسسة، ولا بأس بمثل هذا النوع من الهدايا؛ لأنه لا علاقة له بمجال العمل.
التسمية
هل الاسم «نهى» اسم حسن وما معناه؟
«نهى» اسم حسن ومن معانيه العقل، قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لحديث «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم»، قال: قال أهل اللغة واحدة النهى نهية بضم النون وهي العقل، قيل لأنه ينهى عن القبائح.
وعلى هذا فلا حرج في في التسمية باسم نهى.

المسلم والإسلام

. مراد الصوادقي

المشكلة ليست في الإسلام وإنما في المسلم الذي يجهل الإسلام. وكل مَن يجهل الإسلام يشوّهه بقوله وفعله. وأكثر المحرّفين للإسلام الذين يدّعونه ويتقنعون به، وهم في غيهم وضلالهم يعمهون وما هم إلا يظنون.

تلك حقيقة ما يواجه الإسلام والمسلمين في جميع أنحاء الأرض. فالعيب ليس في الإسلام، وإنما في هؤلاء العاملين على تمثيله بأقبح الصور والأعمال المنافية لمعانيه وجواهر قيمه وتعاليمه الإنسانية الرحيمة النبيلة السامية. والذين اجتهدوا في التعبير عن أسباب التشويش والانطواء والعزلة ونكران قدرات التواصل الاجتماعي الإسلامي البنّاء. وما يجري في مجتمعات عديدة سببه هؤلاء الذين يتظاهرون بمعرفة الإسلام، وهم من أشد الجاهلين به والمعبرين عن عدوانيتهم عليه، لكنهم يدعونه ويتمنطقون بألفاظه ويتوهمونه.

ومن أهم الأسباب التي ساهمت في تشويه الفهم وتحديد معالم الرؤية هي العمائم المسيّسة المدجنة المدّعية بالدين، والتي تتكلم بلسان البغضاء وتحسب ما تأتي به وعظا نافعا للناس، وما هو إلا تعبيرات عن نوازع النفس الأمارة بالعجائب والغرائب، الفاعلة في أعماقهم الدونية التي تم توظيفها لمقاتلة الدين بالدين ذاته.

ولهذا فإن المسلم عليه أن يكون حريصا على الفهم الصحيح والموضوعي لدينه، وأن لا يميل نحو هذا الانحراف أو ذاك، وأن يتمسك بكتابه ويتنوّر بمعاني كلمات آياته ودلالاتها الإنسانية الراقية.

فالإسلام كمنطوق فكري حضاري إنساني مؤثر في بناء الحياة البشرية الأفضل، هو الموجود على الرفوف والمعتق في أمهات الكتب العربية الإسلامية في مكتبات التراث الإسلامي الكبرى، أما ما يجري في بلاد المسلمين وفوق التراب كفعل معبر عن الدين ومترجم لزبدة أفكاره وجواهر معانيه، فهذا غير موجود كما يجب، فالقائم في الحياة مفاهيم تدّعي الإسلام، وفتاوى تنتحل الدين الإسلامي انتحالا، وهناك مراءاة بالدين وليس العمل بالدين.

والمسلم وخصوصا العربي صار يبتعد عن الإسلام بعمله وأفعاله اليومية، لأن الإسلام كفعل اجتماعي يومي لم يعد كفيلا بتحقيق الرغبات وسدّ الحاجات، وإنما الادّعاء به واتخاذه قناعا هو الذي يحقق ربحا وفائدة أكبر. ذلك أن الكذب قد ساد، وعمّ النفاق، والحرام أصبح حلالا والفساد عقيدةً، وكل ما يناقض ويقاطع قيم ومبادئ وأخلاق الإسلام صار هو الفاعل، والإسلام مفعول به منصوب وعلامة نصبه الأمية القرآنية، ومجرور وعلامة جره جهل المسلمين بالإسلام.

تلك هي المحنة التي يمر بها الإسلام، ويحمل لواءها المسلمون أنفسهم ويعبرون عنها بسذاجة ووسائل متعارضة مع أبجديات الدين ومعانية وتطلعاته السامية.

ومن غير الممكن الشفاء من هذا الانحراف، دون استحضار القدرات المعرفية ورفع رايات اقرأ التي دوّت لثلاث مرات في غار حراء، وهي تريد إعمال العقل وإطلاق الأفكار الفاضلة في مسيرة الأجيال التي تتخذ الإسلام دينا، لتنير بدورها وتفاعلاتها الإنسانية مسيرات الأجيال في أوطان الأرض كافة، كما فعل المسلمون المتنورون بالوعي والإدراك الحضاري، في إسبانيا على مدى ثمانية قرون متوهجة بالعلم والمعارف الإسلامية الحية المتوقدة في أعماق العقول والنفوس، فأضاؤوا منابر الإنسانية في غرب الأرض ومشارقها.

فاعرف اللغة العربية أيها المسلم العربي، لكي تتفاعل مع الآيات القرآنية بتفهم إسلامي صحيح وتمتلك قدرات الإنارة الحضارية الرائعة الكامنة في أمهات جواهر الأفكار القرآنية.

فالعودة إلى اللغة العربية والقرآن من أهم أركان يقظة العربي المسلم وإسترجاعه لدوره الحضاري الوهّاج في الأرض. أما أن يبقى رهينة لهذه العمامة أو تلك فلا يمكنه أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، ولا يستطيع أن يكون أحسن مما هو عليه الآن، وعليه أن يختار ويرسم مصيره، ولن تتغير الأحوال إذا لم تتغير النفوس وتتفتح العقول وتنسجم مع إرادة الله في خلقه أجمعين، قال الله تعالى "إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

تلك حقيقة ما نعيشه ونعانيه، ولا بد لنا من مواجهة أنفسنا بشجاعة وتبصر وأمانة وصدق ومسؤولية، لكي نكون ونستعيد دورنا الحضاري المشرق الأصيل، فنرتشف من كأس الوحدانية نور التجلي والإيمان والإشراق الإنساني الساطع.