الأربعاء، 29 أغسطس 2012

رسالة فيما يحرم قوله من العبارات مما انتشر وشاع بين كثيرٍ من الناس

سامح عبد الإله عبد الهادي

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله قد منَّ على عباده بنعمة اللسان، وجعله آلة الكلام، فبه يتحدثون، وبه يتواصلون، وبه يتذاكرون ، ومع هذا فقد يجرُّ اللسان على صاحبه الويلات، ويوردُه من جهنم أدنى الدركات إن لم يحفظ لسانه، وما أكثرُ الذنوبِ إلا من هذا اللسان، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال " الفم والفرج "(جيد،أخرجه الترمذي وابن ماجه)، وسأل معاذ بن جبل النبي صلى الله عليه وسلم فقال " يا نبي الله وإنا لمؤاخذون مما نتكلم به ؟ فقال " ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!"(صحيح، أخرجه الترمذي وابن ماجه).
احـفظ لســانك أيهـا الإنســـــان  ---  لا يلــــدغـنـــك إنـــه ثعــبـــان
كـم فـي المقابر مـن قتيل لسـانه  ---  كـانت تخــاف لقـاءه الشــجعان
ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس لا يلتفت إلى فلتات لسانه، ويتحدّث بما قد يكون فيه هلاكه وشقاؤه، حتى فشا بين الناس كلامٌ كثير مما قد يصل به إلى الكفر الأكبر، وهو مع هذا غافلٌ عما وقع فيه من الخطر الكبير، والإثم العظيم.
من أجل ذلك رأيت أن أقدِّم رسالةً في أكثر العبارات شيوعاً بين الناس مما لا يجوز التلفظ به بحالٍ من الأحوال، ولقد قمت بجمع ما طرق سمعي منها في كثيرٍ من المواقف، واستعنتُ بما جمع غيري ممن سبقني إلى ذلك جزاهم الله خيراً، كما قمت بتوضيح حقيقة هذه العبارات وبيان حكمها وسبب حرمتها، وأبدأ بأولها وهو:
 
1- الحلف بغير الله، كالحلف بالشَّرف والأمانة والنبي والأم والأب والكعبة وغير ذلك.

والحلف بغير الله شركٌ، وقد نهى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم فقال " لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون"(حسن، أخرجه أبو داود والنسائي)، وقال صلى الله عليه وسلم " ألا من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله" فكانت قريش تحلف بآبائها، فقال " لا تحلفوا بآبائكم" (أخرجه البخاري ومسلم )، وقال صلى الله عليه وسلم " من حلف بالأمانة فليس منَّا "(صحيح، أخرجه أبو داود3255)، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنا الحلف بغير الله شرك كائناً ما يكون فقال " من حلف بغير الله فقد أشرك " (صحيح، أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي ).
ومن وقع في هذا المحذور فعليه الكفَّارة، وكفارة الحلف بغير الله أن تقول ( لا إله إلا الله )، قال صلى الله عليه وسلم " من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق " ( أخرجه البخاري ومسلم ).
 
2- الدعاء بقول ( اللهم إنا لا نسألك ردَّ القضاء ولكن نسألك اللطف فيه ).

والدعاء بهذا القول محرَّم، لأنه يتعارض مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه "إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيءٌ أعطاه "(أخرجه البخاري ومسلم)، وفي الدعاء المذكور أعلاه لا يعزم الداعي على الله كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا يسأله فيه أن يردَّ هذا القضاء،  فلو أن الله قدّر عليه المرض، فكأنه يقول: اللهم إني لا أسألك الشفاء ولكن أسألك أن تهوِّنه علي، والأصل أن يدعو الله بالشفاء، وأن يأخذ بالأسباب المعينة على ذلك، وهذا هو المعلوم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك فالدعاء بهذا القوم أعظم مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من ( اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت )[1].
ويغني عنه ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشداً " (صحيح، أخرجه أحمد وابن ماجه ) وما ذكره أبو هريرة رضي الله عنه قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء. قال سفيان وهو أحد رواة الحديث: الحديث ثلاث زدت أنا واحدة لا أدري أيتهن هي.( أخرجه البخاري)[2].
 
3- قول ( لا حول لله يا رب ).

من الأخطاء التي تنتشر على ألسنة العامة قول ( لا حول لله يا رب ) وهي عبارةٌ تنفي الحولَ عنه سبحانه، والذي هو التحوُّل من حال إلى حال، ثم يتوجَّه بهذا النفي إلى الرب، وكأنه يخاطب إلهين اثنين، والمعنى من هذا التركيب الغريب لا يكاد يكون مفهوماً، والعبارة الصحيحة التي وردت في السنة هي ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) وتسمى الحوقلة اختصاراً، وهي كنز من كنوز الجنة، قال صلى الله عليه وسلم " يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة فقلت بلى يا رسول الله قال قل لا حول ولا قوة الا بالله " ( أخرجه البخاري ومسلم ).
وهي كلمة عظيمة تعني أنه لا تحوُّل من حالٍ إلى حال، ولا قدرة على ذلك إلا بالله سبحانه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية "  فلفظ الحول يتناول كل تحول من حال إلى حال والقوة هي القدرة على ذلك التحول ؛ فدلت هذه الكلمة العظيمة على أنه ليس للعالم العلوي والسفلي حركة وتحول من حال إلى حال ولا قدرة على ذلك إلا بالله . ومن الناس من يفسر ذلك بمعنى خاص فيقول : لا حول من معصيته إلا بعصمته . ولا قوة على طاعته إلا بمعونته . والصواب الذي عليه الجمهور هو التفسير الأول وهو الذي يدل عليه "[3].
 
4- الحوقلة عند المصيبة.

الحوقلة كلمة عظيمة تقال إذا دَهَمَ الإنسانَ أمرٌ عظيم لا يستطيعه ، أو يصعب عليه القيام به[4]، ولا تقال عند المصيبة، بل هذا من الأخطاء الشائعة، والذي ينبغي قوله عند المصيبة ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) لقوله تعالى (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة156).
 
ومن المواضع التي تقال فيها (لا حول ولا قوة إلا بالله ) 
ما يلي[5] :
  إذا تقلب في الليل : 
فعن عبادة ابن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له فإن توضأ وصلى قبلت صلاته" (أخرجه البخاري 1154 )
 
  إذا قال المؤذن حي على الصلاة أو حي على الفلاح : 

فعن  عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله قال أشهد أن محمدا رسول الله ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة " (رواه مسلم 385، وأبو داوود527).
 
  إذا خرج من بيته : 

فعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال - يعني - إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت، ووقيت، وتنحَّى عنه الشيطان "(أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والنسائي، وأبو داود وزاد: فيقول له شيطان آخر:كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي).
 
بعد الصلاة : 

فعن أبي الزبير قال: كان ابن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة" (أخرجه مسلم).
 
5- سبُّ الديك بقول ( يلعن ديكك ) وما أشبهها من عبارات

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبِّ الديك فقال " لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة " (حسن، أخرجه أبو داود )، وقال صلى الله عليه وسلم " إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطانا "(أخرجه البخاري ومسلم).
 
6- سبُّ الزمان والتاريخ واليوم والساعة ونحو ذلك.

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبِّ الدَّهر فقال " قال الله: يسبُّ بنو آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار"(أخرجه البخاري ) وفي رواية " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر"(أخرجه مسلم ).

هذا الحديث يبين حرمة سبِّ الزمان، كما يبيِّن أن المصائب والابتلاءات التي تحدثُ ليس للزمان فيها تدبير، بل هي من تقدير الله سبحانه لحكمةٍ شاءها، والزمانً وما فيه من أقدارٍ مخلوقات لا حيلة لها، فمن قام بسبِّ الزمان فكأنما اعترض على الله سبحانه مقدِّرِ الأقدار ومقلِّب الليل والنهار، وهذا يتنافى مع الصبر الواجب في تلك الحال، يقول صلى الله عليه وسلم " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط "(حسن، أخرجه الترمذي وابن ماجه).
 
7- حلف الطلاق، كأن يقول ( عليَّ الطلاق إن لم أفعل كذا ) أو ( عليَّ الطلاق لأفعلنَّ كذا ) ونحو ذلك.

 وحلف الطلاق أمرٌ بالغ الخطورة، فإن كان بعبارته يقصد إيقاع الطلاق إن لم يفعل، ثم لم يفعل؛ فقد وقع الطلاق، وإن كان قصده الحلف وهو يكره وقوع الجزاء عند الشرط، فهذا حالف، وتلزمه كفارة اليمين[6].
 
8- قول ( الدنيا على كفِّ عفريت ) 

يتفوَّهُ بعضهم بهذه العبارة عندما يتوقع حدوث أمرٍ عظيم، وهذه العبارة من عبارات الكفر، لأن قائلها ينسب التدبير والتقدير للعفريت، وينفيه عن الله سبحانه، الله سبحانه بيده الأمر كله، وإليه يعود الأمر كله، يقول سبحانه (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(الأعراف54)، ويقول سبحانه (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر67).
 
9- قول ( مال عيسى ومال موسى ) و ( صل على كمشة أنبياء ) ونحو ذلك.

 هذه العبارات كفرٌ يخرج قائله عن ملَّةِ الإسلام، لما فيه توهينٍ لمقام الأنبياء والمرسلين، وتقليلٍ من شأنهم، وسوءِ أدبٍ عند ذكرهم، واستهزاءٍ بهم، قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (التوبة65-66).
 
10- قول ( لو إنو نبي ما كلمته ) و ( لو يحط يده بيد نبي ما كلمته ) ونحو ذلك.

 يقال في هذه العبارات ما قيل في سابقاتها، فهي كفرٌ يخرج قائله من الإسلام لما فيه من سوء أدبٍ عند ذكر الأنبياء، ولما فيه من تقليلٍ لشأنهم، وتوهينٍ لمقامهم عليهم أفضل الصلاة والسلام.
 
11- إطلاق النكات بذكر الجنة والنار والملائكة والأنبياء وغير ذلك.

 إن إطلاق النكات بذكر هذه الأمور؛ وحياكة القصص والطرف المضحكة حولها؛ كفرٌ يخرج صاحبه عن ملَّة الإسلام، لما فيه من استهزاءٍ بالدين وأركانه، قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (التوبة65-66).
 
12-  قول ( بعطي اللحمة للي ما إلو أسنان ) ونحو ذلك.

 هذه العبارة كفر بالله سبحانه، حيث تنسب إلى الله سوء التقدير عند توزيع الأرزاق، وكأن قائلها أخبر وأبصر من الله سبحانه في ذلك، والله سبحانه يقول (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (العنكبوت62).
 ويقول سبحانه (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) (الإسراء30) فالله سبحانه يوسِّع الرزق ويبسطه لمن يشاء من عباده، ويقدره ويضيقه على من يشاء، فهو خبيرٌ بما يصلحهم في الدنيا والآخرة، بصيرٌ بتدبيرهم وسياستهم، قال الطبري " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد يبسط رزقه لمن يشاء من عباده، فيوسع عليه، ويقدر على من يشاء، يقول: ويُقَتِّر على من يشاء منهم، فيضيِّق عليه( إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا ): يقول: إن ربك ذو خبرة بعباده، ومن الذي تصلحه السعة في الرزق وتفسده؛ ومن الذي يصلحه الإقتار والضيق ويهلكه (بصيراً): يقول: هو ذو بصر بتدبيرهم وسياستهم، يقول: فانته يا محمد إلى أمرنا فيما أمرناك ونهيناك من بسط يدك فيما تبسطها فيه، وفيمن تبسطها له، ومن كفها عمن تكفها عنه، وتكفها فيه، فنحن أعلم بمصالح العباد منك، ومن جميع الخلق وأبصر بتدبيرهم"[7].
 
13- قول (رزق الهبل على المجانين).

 هذه العبارة من العبارات التي تخالف العقيدة، فالرزق من عند الله وحده، يقول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات58).
 
14- قول ( لا برحم ولا بخلي رحمة ربنا تنزل ).

 هذه العبارة كسابقتها يحرم التلفظ بها لما فيها من الكفر بالله تعالى، فالله سبحانه له القدرة المطلقة، ينزل رحمته على عباده ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يقول تعالى (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(فاطر2)[8].
 
15- قول ( شاءت الأقدار ) و ( شاءت الظروف ) و( شاءت عناية الله ) و(شاءت القدرة الإلهية) ونحو ذلك. 

 هذه العبارات كفرً لما فيها من نسبة المشيئة للأقدار، ونفيها عن الله سبحانه، والله خالق الأقدار ومقدِّرها، والأقدار مخلوقةٌ لا تحدث إلا بأمر الله ومشيئته، يقول تعالى (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(الزمر 62) وقال سبحانه (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير28-29).
 
16- قول أحدهم عند العزاء ( يسلم رأسك ).

 وهي عبارة خاطئة لا ينبغي ذكرها، لقول الله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (العنكبوت57)، ولن يسلم أحدٌ من الموت.
 
17- قول ( لا حياء في الدين ).

 هذه العبارة مما شاع بين الناس بكثرة، وهي عبارة خاطئة، لقوله صلى الله عليه وسلم " الحياء شعبة من الإيمان"(أخرجه البخاري ومسلم) وقوله صلى الله عليه وسلم " الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار"(حسن، أخرجه الترمذي).

والصحيح أن يقال ( لا حياء في طلب العلم ) لقول مجاهد " لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبِر" وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها " نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين"[9].
 
18- قول ( ذهب إلى مثواه الأخير ).

يقولها بعضهم عند أخذ الجثة إلى القبر، أو عند دفنه أو بعده، وهي عبارة خاطئة، فالقبر ليس آخر منازل الإنسان، بل أولُ منازل الآخرة لقوله صلى الله عليه وسلم " إن القبر أول منازل الآخرة . فإن نجا منه فما بعده أيسر منه . وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه"(حسن، أخرجه الترمذي وابن ماجه).
 
19- قول بعضهم ( ليش يا رب) و ( والله ما يستاهل) و ( ليش أنا من بين الناس) ونحو ذلك.

هذه العبارات كفرٌ يخرج صاحبه عن الإسلام، لما فيها من اعتراضٍ على أقدار الله، واتِّهاماً له بالظلم سبحانه، واتِّهاماً لحكمته في أفعاله، يقول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس44) وقال سبحانه (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء40) وقال سبحانه (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)(الإنسان 30).
 
20- قول ( توكلت على الله وعليك ) ونحوها.

وهي عبارة خاطئة، بل هي من العبارات المحرمة لما فيها من الشرك بالله، والأصل أن يقال ( توكلت على الله ثم عليك) فالتوكل على الله عبادة قلبية، أما التوكل على الناس فهو من باب الأخذ بالأسباب.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا فقال " لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان"(صحيح، أخرجه أبو داود وابن ماجه).
 
21- قول ( الله يظلم اللي ظلمني) و ( الله يجور عليك ).

وهذا من الكفر، فالله سبحانه منزَّهٌ عن الظلم، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس44) وقال سبحانه (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء40).
وعن  أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا " (أخرجه مسلم).
 
22- قول (يا محمد) و( يا رسول الله الشفاعة) ومثله (يا علي) و(يا حسين) ونحو ذلك.

وهذا يعدُّ من الشرك الأكبر المنافي لتوحيد العبادة، فالاستغاثة والاستعانة عباداتٌ لا يجوز صرفها لغير الله، فلا يستغاث بنبيٍّ ولا وليٍّ ولا ملكٍ، لقوله تعالى (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر60)، وقوله سبحانه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(الفاتحة5)، وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" (حسن، أخرجه الترمذي).
هذه جملةٌ من العبارات التي تنتشر على الألسنة، والتي ينبغي على المسلم أن يتجنبها ويحذر منها، لما في أكثرها من الكفر، ولما فيها من عبارات محرمة توبِقُ قائلها، ومما يجدُر التنبيه عليه أن من قال شيئاً مما ذُكِرَ في هذه الرسالة من العبارات الكفريَّة مكرهاً أو جاهلاً فإنه لا يكفر لخفاء معناها على كثيرٍ من قائليها، ولا يكفرُ قائلُ هذه العبارات إلا بتعمُّدِ قولها بعد معرفةِ معناها وحُكمِها وقيامِ الحجَّة عليه.

هدى الله المسلمين لكلِّ خيرٍ، ووفَّقهم لما يحبُّ ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين.


*مراجع هامة للتوسع في هذا الباب:
1- معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر أبو زيد.
2- المناهي اللفظية للشيخ محمد بن صالح العثيمين.
 
كتبه: سامح عبد الإله عبد الهادي
المحاضر في جامعة النجاح الوطنية
sameh_sm83@hotmail.com
 


----------------------
[1]  وانظر: فتاوى (نور على الدرب) للشيخ العثيمين، http://www.ibnothaimeen.com/all/sound/article_17381.shtml
[2]  " فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء" (24/291).
[3] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (5/574).
[4] موقع الإسلام سؤال وجواب http://islamqa.info/ar/ref/7747
[5]  موقع الإسلام سؤال وجواب http://islamqa.info/ar/ref/7747
[6][6] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ( 33/ 34 -35 ).
[7] جامع البيان عن تأويل آي القرآن (17/435).
[8] انظر: موقع إسلام ويب http://www.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=127369
[9] صحيح البخاري (1/38)، الترجمة السابقة لحديث رقم (130).

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً)

عمر بن عبد المجيد البيانوني

بسم الله الرحمن الرحيم

يا لها من قاعدة عظيمة تدلُّنا على المخرج من مصائبنا وهمومنا، إنَّ المخرج هو تقوى الله (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً)، مخرجاً من الضيق والعنت في الدنيا والآخرة، ورزقاً من حيث لا يتوقع الإنسان ولا يحتسب.

والتَّقْوَى من الوِقَاية وهي: حفظُ الشيءِ ممّا يضرُّه ويؤذيه، وجعل الإنسان نفسه في وِقَايَةٍ مما يخاف منه، فالتَّقْوَى هي حفظ النفس عمَّا يؤثم، وذلك بفعل المأمور وترك المحظور.

وقد ورد أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أُبَي بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكتَ طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى! قال: فما عملت؟ قال: شمَّرت واجتهدت. قال: فذلك التقوى.
فالتقوى هي الضمير الحي لدى الإنسان والوازع الداخلي فيه، ورقابته الذاتية لنفسه، فيكون ذا إحساس عالٍ في ضميره، ويَقَظَة في شعوره، وخشية مستمرة، وتَوَقٍ لأشواك الطريق.

قال طلق بن حبيب رضي الله عنه في التقوى هي: (العمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله). فبالتقوى يحرص المؤمن على رضا الله تعالى، ويبتعد عمَّا يسخطه ويغضبه.

فتقوى الله هي سبب تفريج الشدائد والمصائب، وهي التي تزيد إيمانه ويقينه بالله سبحانه، قال ابن عطاء: (على قدر قربهم من التقوى أدركوا من اليقين).

قال تعالى: (إِنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)، والكريم حقاً هو الكريم عند الله تعالى، فالميزان الصحيح لقيمة الإنسان هو ميزان التقوى، ميزان الاتصال بالله وذكره وتقواه.

وكفى المتقين جزاءً أنَّ الله معهم بنصره ومعونته وتأييده، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).

فازرع التقوى في قلبك، حتى تنبت نباتاً حسناً، تحصد منه ثماراً يانعة، قطوفها دانية، من التوفيق والفلاح والخيرات والمسرَّات في الدنيا والآخرة، فالله سبحانه أكرم من أن يعامله العبد نقداً فيجازيه نسيئةً، بل يَرَى العبدُ مِنْ ثواب عمله في الدنيا قبل الآخرة من السعادة والسرور وما يكرمهم الله تعالى به من النِّعَم.

وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.

(إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)

عمر بن عبد المجيد البيانوني

بسم الله الرحمن الرحيم

يقترف أحدهم من السيئات والآثام فيحزن لذلك ويندم، وهذا أمر مطلوب ولكنْ على أن لا يصل حزنه على معصيته وخوفه من الله إلى القنوط من رحمة الله تعالى، فالقنوط من رحمة الله أشد إثماً وأعظم جُرْماً، قال تعالى: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ)، وقال: (إِنَّهُ لا يَيْأسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا القَوْمُ الْكَافِرُونَ)، فالخوف من الله له حدٌّ ينبغي أن لا يتجاوزه، حتى لا يقنط العاصي من رحمة الله وقبول توبته.

فهذه الآية (إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) تجعل المسلم يكثر من فعل الحسنات حتى لو ظلم نفسه وعصى الله تعالى، بل هو في هذه الحالة أحوج من غيره إلى الحسنات، فالحسنات تذهب السيئات، فلا يكون لسان حاله:
... أنا الغريقُ فما خَوْفي مِنَ البَلَلِ
بل يعلم أنَّ رحمةَ اللهِ واسعةٌ، قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، وقال سبحانه على لسان ملائكته: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمَاً).

ولن يدخل أحدٌ الجنةَ بعمله مهما كانت عبادته وتقواه، بل برحمة الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: (لَنْ يُنْجِيَ أَحَدَاً مِنْكُمْ عَمَلُهُ)، قَالَ رَجُلٌ: وَلا أنت يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: (وَلاَ أنا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) متفق عليه.
ومِنْ أفضل ما يعتقده المؤمن هو حسن الظن بالله تعالى، فقد قال الله سبحانه في الحديث القدسي: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبَاً فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْباً فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبَّاً يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبَاً فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبَّاً يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبَاً فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبَّاً يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأخُذُ بِالذَّنْبِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي - ثَلاَثَاً - فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ. متفق عليه.

فما أوسعَ رحمة الله بخلقه وعباده، وما أعظمَ هذا الكرم الإلهي الذي يفوق تصوُّرَ البشر وحساباتهم، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ).

وهذه الرحمة لا تدعو إلى معصية الله، وإنما إلى شكر الله على رحمته بعباده، وعدم القنوط من رحمته عند معصيته، بل المسارعة بالتوبة إلى الله والرجوع إليه. (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى).

وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً. 

(وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)

عمر بن عبد المجيد البيانوني

بسم الله الرحمن الرحيم

(حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قالها إبراهيمُ حين أُلقي في النار، فجَعَلَ اللهُ النارَ برداً وسلاماً عليه، (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدَاً وَسَلَامَاً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، فلا يمكن لشيء أن ينفع أو يضر إلا بإذن الله تعالى، فالله هو الذي جعل النار محرقة فهي لا تحرق بذاتها، فإذا أراد لها أن تكون برداً وسلاماً صارت كذلك، قال ابن عباس: (لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من شدَّة بردها).

فالله الذي جعل النار برداً سلاماً هو الذي يجعل المِحَن مِنَحاً وعطايا، ويجعل الفقرَ والحاجةَ سعةً وغنى، ويجعل الهمومَ والأحزانَ أفراحاً ومسرَّات، ويجعل المنعَ عطاءً ورحمةً، وهذا كلُّه لمن توكَّل على الله تعالى وأيقن به وأحسن الظن بالله سبحانه.

(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانَاً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
(حَسْبُنَا اللهُ) أي الله كافينا، (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، لمن وَكَل حاجته إليه وتوكل في قضائها عليه.
فماذا كان جزاؤهم: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).
لقد انتصروا عندما أيقنوا أنَّ الله معهم فتوكلوا عليه، وعلموا أنَّ النصر من عند الله، (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى).

قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ)، فمن يتوكل على الله يكفيه ما أهمه، فالله بالغ أمره. فما قدَّر الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فالتوكُّل عليه هو توكُّل على القويِّ القادر الفعَّال لما يريد.

والتوكل أن يوقن العبد بكفاية الربِّ، قال الجنيد: (التوكل هو سُكُون الْقَلْب إِلَى مَوْعُودِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)، وقال بعضهم: (التوكل هو علم القلب بكفاية الربِّ للعبد).

ومتى كان العَبْدُ حَسَنَ الظنِّ بالله، حَسَنَ الرجاءِ له، صادقَ التوكُّلِ عليه : فإن اللهَ لا يخيب أمله فيه، فإنه سبحانه لا يخيب أمل آمل، ولا يضيع عمل عامل.

وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.

تذكير المسلمين بصلاة الأوابين

إعداد / د : أحمد عرفة
معيد بجامعة الأزهر

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبعد:
إن الصلاة عبادة من العبادات الربانية الإلهية التى فرضها الله عز وجل على عباده ، والصلاة هى أول ما يحاسب عليه يوم القيامة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله ، منها ما هو فرض يعاقب الإنسان على تركه وهى الصلوات الخمس المفروضة فى اليوم والليلة ، وهناك صلوات أخرى مسنونة سنها لنا النبى صلى الله عليه وسلم إذا فعلها المسلم حصل من وراءها الحسنات الكثيرة ، وإن تركها لم يعاقب عليها ، ومن هذه الصلوات المسنونة صلاة الضحى التى سماها النبى صلى الله عليه وسلم بصلاة الأوابين ، فما هو فضلها وعدد ركعاتها ووقتها.
هيا بنا نتعرف على هذه الأمور الخاصة بهذه الصلاة فى هذه المقالة المتواضعة.
 
أولاً : فضلها:

ورد فى فضل صلاة الضحى أحاديث كثيرة عن النبى صلى الله عليه وسلم منها:
 
1- أنها وصية النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه:

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث : " صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام "([1]).

قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله:
وفي الحديث دليل على استحباب صلاة الضحى وأنها ركعتان ولعله ذكر الأقل الذي توجه التأكيد لفعله وعدم مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها لا ينافي استحبابها لأن الاستحباب يقوم بدلالة القول وليس من شرط الحكم: أن تتضافر عليه الدلائل نعم ما واظب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم تترجح مرتبته على هذا الظاهر([2]).
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : أوصاني حبيبي بثلاث لن أدعهن ما عشت : بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وصلاة الضحى ، وأن لا أنام حتى أوتر([3]).
 
2- أنها تجزئ عن صدقات كثيرة:

عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى "([4]).

قال الإمام النووي رحمه الله:
فيه دليل على عظم فضل الضحى وكبير موقعها وأنها تصح ركعتين([5])
.
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله:
أي يكفي من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان فإن الصلاة عمل لجميع أعضاء الجسد فإذا صلى فقد قام كل عضو بوظيفته والله أعلم([6]).

وقال الإمام الشوكاني رحمه الله:
والحديثان يدلان على عظم فضل الضحى وأكبر موقعها وتأكد مشروعيتها ، وأن ركعتيها تجزيان عن ثلاثمائة وستين صدقة ، وما كان كذلك فهو حقيق بالمواظبة والمداومة ، ويدلان أيضاً على مشروعية الاستكثار من التسبيح والتحميد والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودفن النخامة وتنحية ما يؤذي المار عن الطريق ، وسائر أنواع الطاعات ليسقط بفعل ذلك ما على الإنسان من الصدقات اللازمة في كل يوم([7]).

وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله:
معنى الحديث على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة لأنه إذا أصبح العضو سليما فينبغي أن يشكر ويكون شكره بالصدقة فالتسبيح والتحميد وما ذكره يجري مجرى الصدقة عن الشاكر وقوله ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى لأن الضحى من الصباح وإنما قامت الركعتان مقام ذلك لأن جميع الأعضاء تتحرك فيها بالقيام والقعود فيكون ذلك شكرها([8]).

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله:
لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر ، وله عليه فيه نهي ، وله فيه نعمة وله به منفعة ولذة ، فإن قام لله في ذلك العضو بأمره واجتنب فيه نهيه ، فقد أدى شكر نعمته عليه فيه ، وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به ، وإن عطل أمر الله ونهيه فيه عطله الله من انتفاعه بذلك العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته0
 وله عليه في كل وقت من أوقاته عبودية تقدمه إليه تقربه منه ، فإن شغل وقته بعبودية الوقت تقدم إلى ربه ، وإن شغله بهوى أرواحه وبطالة تأخر ، فالعبد لا يزال في التقدم أو تأخر ولا وقوف في الطريق البتة قال تعالى: (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) ([9])([10]).
 
3- حرص النبى صلى الله عليه وسلم عليها:

وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كَانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الضُّحَى أرْبَعاً ، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ الله ([11]).

قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله:
 لعله ذكر الأقل الذي يوجد التأكيد بفعله. قال: وفي هذا دليل على استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، وعدم مواظبة النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على فعلها لا ينافي استحبابها لأنه حاصل بدلالة القول وليس من شرط الحكم أن تتضافر عليه أدلة القول والفعل، لكن ما واظب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على فعل مرجح على ما لم يواظب عليه([12]).
وعن أُمِّ هَانِىءٍ فاختة بنت أَبي طالب رضي الله عنها ، قالت : ذَهَبْتُ إِلَى رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، عَامَ الفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ ، صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، وَذَلِكَ ضُحىً([13]).
 
4 - صلاة الضحى صلاة الأوابين .

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صلاة الضحى صلاة الأوابين([14]).
وعنه رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب " قال : " وهي صلاة الأوابين "([15]).

قال الإمام المناوي رحمه الله:
(لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب وهي صلاة الأوابين) فيه الرد على من كرهها وقال إن إدامتها تورث العمى ، والأواب الرجاع إلى الله بالتوبة يقال آب إلى الله رجع عن ذنبه فهو أواب مبالغة([16]).
وعن القاسم الشيباني ، أن زيد بن أرقم ، رأى قوما يصلون من الضحى ، فقال : أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " صلاة الأوابين حين ترمض الفصال "([17]).

قال الإمام النووي رحمه الله:
صلاة الأوابين حين ترمض الفصال هو بفتح التاء والميم يقال: رمض يرمض كعلم يعلم ، والرمضاء الرمل الذي اشتدت حرارته بالشمس أي حين يحترق أخفاف الفصال ،  وهي الصغار من أولاد الإبل جمع فصيل من شدة حر الرمل.
والأواب المطيع وقيل: الراجع إلى الطاعة.
وفيه فضيلة الصلاة هذا الوقت قال أصحابنا: هو أفضل وقت صلاة الضحى ، وإن كانت تجوز من طلوع الشمس إلى الزوال([18]).

وقال الإمام الشوكاني رحمه الله:
والحديث يدل على أن المستحب فعل الضحى في ذلك الوقت ، وقد توهم أن قول زيد بن أرقم أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل كما في رواية مسلم يدل على نفي الضحى ، وليس الأمر كذلك بل مراده أن تأخير الضحى إلى ذلك الوقت
 أفضل([19]).

-تكفَّل الله تعالى لمن ركع أربع ركعات من الضحى كفاه آخر النهار من المؤنة وغيرها .
عن أبي ذر رضى الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تبارك وتعالى : ابن آدم اركع لي أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره([20]).

قال الإمام المناوي رحمه الله:
(من أول النهار أكفك آخره) أي شر ما يحدثه في آخر ذلك اليوم من المحن والبلايا فأمره تعالى بفعل شئ أو تركه إنما هو لمصلحة تعود على العبد وأما هو فلا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: هذا من الأحاديث الإلهية وهي تحتمل أن يكون المصطفى صلى الله عليه وسلم أخذها عن الله تعالى بلا واسطة أو بواسطة([21]).
 
6- صلاة الضحى غنيمة عظيمة:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية فغنموا وأسرعوا الرجعة فتحدث الناس بقرب مغزاهم وكثرة غنيمتهم وسرعة رجعتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة من توضأ ثم غدا إلى المسجد لسبحة الضحى فهو أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة([22]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثا فأعظموا الغنيمة وأسرعوا الكرة فقال رجل يا رسول الله ما رأينا بعثا قط أسرع كرة ولا أعظم غنيمة من هذا البعث فقال ألا أخبركم بأسرع كرة منهم وأعظم غنيمة رجل توضأ فأحسن الوضوء ثم عمد إلى المسجد فصلى فيه الغداة ثم عقب بصلاة الضحوة فقد أسرع الكرة وأعظم الغنيمة([23]).
 
7- صلاة الضحى بعمرة :

وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين([24]).

قوله: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم) أي: كما أن الحاج إذا كان محرما قبل الميقات كان ثوابه أتم، فكذلك الخارج إلى الصلاة إذا كان متطهراً من بيته كان ثوابه أفضل، شبه بالحاج المحرم لكون التطهر من الصلاة بمنزلة الإحرام من الحج لعدم جوازهما بدونهما. وقيل: المراد كأصل أجره، وقيل: كأجره من حيث أنه يكتب له بكل خطوة أجر كالحاج، وإن تغاير الأجران كثرة وقلة أو كمية وكيفية.

وقال الطيبي: من خرج من بيته أي: قاصداً إلى المسجد لأداء الفرائض. وإنما قدرنا القصد ليطابق الحج لأنه القصد الخاص، فنزل النية مع التطهير منزلة الإحرام.
وأمثال هذه الأحاديث ليست للتسوية، كيف وإلحاق الناقص بالكامل يقتضى فضل الثاني وجوبا ليفيد المبالغة، وإلا كان عبثاً، فشبه حال المصلي القاصد إلى المكتوبة بحال الحاج المحرم في الفضل مبالغةً وترغيباً للمصلي ليركع مع الراكعين، ولا يتقاعد عن حضور الجماعات
(تسبيح الضحى) أي: صلاة الضحى، وكل صلاة تطوع تسبيحة وسبحة.

قال الطيبي: المكتوبة والنافلة وإن اتفقتا في أن كل واحدة منهما يسبح فيها إلا أن النافلة جاءت بهذا الاسم أخص من جهة أن التسبيحات في الفرائض والنوافل سنة، فكأنه قيل للنافلة تسبيحة على أنها شبيهة بأذكار في كونها غير واجبة.

(لا ينصبه) أي: لا يتعبه ولا يخرجه، بضم الياء من الأنصاب وهو الإتعاب، مأخوذ من نصب بكسر الصاد أي: تعب، وأنصبه غيره أي: أتعبه، ويروي بفتح الياء من نصبه إذا أقامه، قاله زين العرب.

 وقال التوربشتي: هو بضم الياء والفتح احتمال لغوي لا أحققه رواية (إلا إياه) أي: لا يزعجه ولا يحمله على الخروج إلا ذلك، أي: تسبيح الضحى. وحقه أن يقال: إلا هو، فوضع الضمير المنصوب موضع المرفوع.

 قال ابن الملك: وضع الضمير المنصوب موضع المرفوع لأنه استثناء مفرغ يعني لا يتعبه إلا الخروج إلى تسبيح الضحى.
(فأجره كأجر المعتمر) إشارة إلى أن فضل ما بين المكتوبة ولا نافلة، والخروج إلى كل واحد منهما، كفضل ما بين الحج والعمرة، والخروج إلى كل واحد منهما([25]).

وقال الطيبي رحمه الله: وإنما مدحهم بصلاتهم في الوقت الموصوف؛ لأنه وقت تركن فيه النفوس إلى الاستراحة ، ويتهيأ فيه أسباب الخلوة وصرف العناية إلى العبادة، فيرد على قلوب الأوابين من الإنس بذكر الله وصفاء الوقت ولذاذة المناجاة ما يقطعهم عن كل مطلوب سواه([26]).
 
ثانياً: وقتها:

لا خلاف بين الفقهاء في أن الأفضل فعل صلاة الضحى إذا علت الشمس واشتد حرها ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال). ومعناه أن تحمى الرمضاء وهي الرمل فتبرك الفصال من شدة الحر .
قال الطحاوي : ووقتها المختار إذا مضى ربع النهار.
وجاء في مواهب الجليل نقلا عن الجزولي : أول وقتها ارتفاع الشمس ، وبياضها وذهاب الحمرة ، وآخره الزوال .
 قال الحطاب نقلا عن الشيخ زروق : وأحسنه إذا كانت الشمس من المشرق مثلها من المغرب وقت العصر.
قال الماوردي : ووقتها المختار إذا مضى ربع النهار .
قال البهوتي : والأفضل فعلها إذا اشتد الحر  .

ثم اختلف الفقهاء في تحديد وقت صلاة الضحى على الجملة .
فذهب الجمهور إلى أن وقت صلاة الضحى من ارتفاع الشمس إلى قبيل زوالها ما لم يدخل وقت النهي  .
وقال النووي في الروضة: قال أصحابنا (الشافعية) : وقت الضحى من طلوع الشمس ، ويستحب تأخيرها إلى ارتفاعها.
ويدل له خبر أحمد عن أبي مرة الطائفي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله : يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات من أول نهارك أكفك آخره ([27]).
لكن قال الأذرعي : نقل ذلك عن الأصحاب فيه نظر ، والمعروف من كلامهم الأول ( أي ما ذهب إليه الجمهور)([28]).
 
ثالثاً: عدد ركعاتها: 


اختلف الفقهاء فى أقلها وأكثرها

فذهب المالكية والحنابلة : إلى أن أكثر صلاة الضحى ثمان لما روت أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة وصلى ثماني ركعات ، فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود.

وصرح المالكية : بكراهة ما زاد على ثماني ركعات ، إن صلاها بنية الضحى لا بنية نفل مطلق ، وذكروا أن أوسط صلاة الضحى ست.

ويرى الحنفية والشافعية: - في الوجه المرجوح  - وأحمد - في رواية عنه - أن أكثر صلاة الضحى اثنتا عشرة ركعة .
 لما رواه الترمذي والنسائي بسند فيه ضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة .

قال ابن عابدين نقلا عن شرح المنية : وقد تقرر أن الحديث الضعيف يجوز العمل به في الفضائل.

وقال الحصكفي من الحنفية ، نقلا عن الذخائر الأشرفية : وأوسطها ثمان وهو أفضلها ؛ لثبوته بفعله وقوله عليه الصلاة والسلام
وأما أكثرها فبقوله فقط ، وهذا لو صلى الأكثر بسلام واحد أما لو فصل فكلما زاد أفضل  .

أما الشافعية : فقد اختلفت عباراتهم في أكثر صلاة الضحى إذ ذكر النووي في المنهاج أن أكثرها اثنتا عشرة وخالف ذلك في شرح المهذب ، فحكى عن الأكثرين : أن أكثرها ثمان ركعات.

وقال في روضة الطالبين : أفضلها ثمان وأكثرها اثنتا عشرة ، ويسلم من كل ركعتين([29]).
كانت هذه بعض الكلمات اليسيرة عن صلاة الضحى وبيان فضلها ووقتها وعدد ركعاتها نسأل الله تعالى أن يوفقنا للقيام بهذه الصلاة والمحافظة عليها حتى ننال هذه الأجور العظيمة.
وفقنا الله تعالى وإياكم لما يحبه ويرضاه وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال
والله من وراء  القصد
وهو حسبنا ونعم الوكيل

للتواصل مع الكاتب
01119133367
Ahmedarafa11@yahoo.com


--------------------------
([1])أخرجه البخاري فى صحيحه - كتاب الصوم- باب صيام أيام البيض : ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة – حديث رقم ‏1895‏ ، وأخرجه مسلم فى صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها- باب استحباب صلاة الضحى  - حديث رقم ‏1217‏0
([2])إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام : جـ1صـ287 0
([3]) أخرجه مسلم فى صحيحه  - كتاب صلاة المسافرين وقصرها-  باب استحباب صلاة الضحى  - حديث رقم ‏1218‏0
([4])أخرجه مسلم فى صحيحه  - كتاب صلاة المسافرين وقصرها- باب استحباب صلاة الضحى  - حديث رقم ‏1216‏0
([5])شرح صحيح مسلم : جـ5صـ234 0
  ([6])شرح الأربعين النووية : جـ1صـ70 0
([7])نيل الأوطار: جـ3 صـ79 0
([8])كشف المشكل من حديث الصحيحين: للإمام ابن الجوزي جـ1صـ243 طبعة دار الوطن بالرياض – 1418هـ-1997م – تحقيق: على حسين البواب0
([9])سورة المدثر: الآية:37 0
([10])الفوائد : صـ193 0
([11]) أخرجه مسلم فى صحيحه  - كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب استحباب صلاة الضحى حديث رقم ‏1210‏0
([12])سبل السلام : جـ2 صـ16 0
([13])أخرجه البخاري  فى صحيحه - كتاب الجزية - باب أمان النساء وجوارهن – حديث رقم 3016‏، وأخرجه مسلم فى صحيحه - كتاب الحيض-  باب تستر المغتسل بثوب ونحوه – حديث رقم ‏536‏0
([14])أخرجه الديلمى فى مسند الفردوس وصححه الألبانى فى صحيح الجامع حديث رقم 3827 0
([15])أخرجه الحاكم فى المستدرك  - من كتاب صلاة التطوع-  فأما حديث عبد الله بن فروخ – حديث رقم ‏1116‏، وحسنه الألبانى فى صحيح الجامع حديث رقم 7628 0
([16])فيض القدير: جـ6 صـ578 0
([17])أخرجه مسلم فى صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها-  باب صلاة الأوابين حين ترمض الفصال – حديث رقم ‏1277‏0
([18])شرح النووى على مسلم : جـ6صـ30 0
([19])نيل الأوطار : جـ3 صـ80 0
([20]) أخرجه الترمذى فى سننه  - أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبواب الوتر -  باب ما جاء في صلاة الضحى حديث رقم ‏457 وصححه الألبانى فى صحيح سنن الترمذى حديث رقم  475 0
([21])فيض القدير : جـ4صـ615 0
([22])أخرجه أحمد فى مسنده  - ومن مسند بني هاشم- مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما – حديث رقم ‏6466‏، وقال الألبانى: حسن صحيح انظر: صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم 668 0
([23])أخرجه ابن حبان فى صحيحه - باب الإمامة والجماعة- باب الحدث في الصلاة -  ذكر إثبات أعظم الغنيمة لمعقب صلاة الغداة بركعتي الضحى - حديث:‏2575‏ وقال الألبانى : حسن صحيح انظر: صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم 470 ،669 0
([24])أخرجه أبو داود فى سننه  - كتاب الصلاة- باب ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة - حديث:‏476‏ وحسنه الألبانى فى صحيح سنن أبى داود حديث رقم 558 وصحيح الجامع حديث رقم 3837 ، 6228 0
([25])مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: جـ2 صـ441 0
([26])المرجع السابق : جـ4 صـ351 0
  ([27]) أخرجه أحمد فى مسنده وصححه الألبانى فى صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم 672 0
  ([28])انظر : الموسوعة الفقهية الكويتية : جـ27 صـ223-225 0
  ([29])انظر : الموسوعة الفقهية الكويتية : جـ27 صـ225-226 0
 

44 سؤالاً لمحاسبة النفس ؟

أحمد خالد العتيبي

بسم الله الرحمن الرحيم

- هل صليت جميع الصلوات مع الجماعة وحافظت على الصف الأول ؟
- هل قرأت شيئاً من كتاب الله بتأمل وتدبر ؟
- هل حافظت على نوافل الصلاة كالسنن الرواتب والوتر والضحى ؟
- هل دعوت الله بصدق وتضرعت إليه بإلحاح وأنت موقن بالإجابة ؟
- هل خشعت في الصلاة وجاهدت الشيطان ودافعت الوساوس ؟
- هل حافظت على أذكار الصباح والمساء والأدعية الزمانية والمكانية ؟
- هل تيامنت في مأكلك وملبسك وطهارتك وتعاملك وفي شئونك كلها ؟
- هل زرت القبور وتذكرت هادم اللذات وأعددت العدة له ؟
- هل ابتعدت عن الغضب والانتقام وكنت حليماً على من أخطأ عليك ؟
- هل انشغلت بإصلاح عيوبك عن عيوب غيرك ؟
- هل جاهدت نفسك على أن تكون من المتقين وابتعدت عن الفتور في العبادة ؟
- هل خشع قلبك وذرفت عينك لله وأنت بعيد عن الناس ؟
- هل اخترت شاباً وكثفت جهودك في دعوته إلى الله تعالى ؟
- هل كنت جاداً في حياتك بعيداً عن الإسراف في المباحات والإغراق في الكماليات ؟
- هل حفظت وقتك من الضياع وطلبت العلم وحفظت شيئاً من الأحاديث ؟
- هل أفشيت السلام على من عرفت ومن لم تعرف، وكان ثغرك باسماً وكلامك طيباً ؟
- هل بررت بوالديك ووصلت أرحامك أو زرت أخاً لك في الله ؟
- هل سجدت شكراً لله عند سماعك خبراً ساراً ؟
- هل فزعت إلى الصلاة عندما أتاك ما يحزنك ويكدر خاطرك ؟
- هل حاولت الإصلاح بين متخاصمين وبدأت بنفسك فتصافيت مع من هجرتهم ؟
- هل تصدقت على فقير أو تبرعت لعمل خيري لاسيما الصدقة الجارية ؟
- هل التزمت بجميع مواعيدك في وقتها لتنجو من النفاق ؟
- هل أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وابتعدت عن المجاملة على حساب دينك ؟
- هل صمت يوماً في سبيل الله لاسيما الاثنين والخميس ؟
- هل جلست مع أفراد أسرتك ودعوتهم إلى الله وعلمتهم ما ينفعهم ؟
- هل عدت مريضاً ودعوت له بالشفاء من مرضه ؟
- هل حملت هم الإسلام وتأثرت لما يحصل للمسلمين في كل مكان ؟
- هل حرصت على أن تعتمر وتحج وتؤدي هذين النسكين قبل مماتك ؟
- هل حرصت على تبشير المسلم بما يسره ويدخل الفرح في قلبه ؟
- هل ابتعدت عن مجالسة العصاة إلا لدعوتهم ؟
- هل استخدمت السواك لاسيما عند الوضوء والصلاة ؟
- هل حاسبت نفسك قبل النوم ونمت وقلبك خالٍ من الحسد على الناس ؟
- هل اتقيت الله في أحوالك وأخلصت له في أعمالك ؟
- هل رددت مع المؤذن لتكسب شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
- هل ابتعدت عن فضول المأكل والكلام والنظر والنوم والخلطة والضحك ؟
- هل أمسكت لسانك عن كل محرم وخاصة الغيبة ؟
- هل غضضت بصرك وكففت سمعك عما حرم الله ؟
- هل سألت الله الثبات على الدين ودخول الجنة والنجاة من النار ؟
- هل حمدت الله على نعمة الإسلام والصحة والمال والولد ؟
- هل توكلت على الله واستعنت به وفوضت أمرك إليه ؟
- هل دعوت لغيرك في ظهر الغيب ؟
- هل تواضعت للناس وكنت في عونهم فيما تقدر عليه ؟
- هل تدبرت في خلق الله وتفكرت في ملكوته ؟
- هل شكوت إلى الله كل ما يصيبك وابتعدت عن الشكوى لغيره ؟

المصدر : مطوية بعنوان 50 سؤالاً لمن أراد محاسبة نفسه - سليمان عبدالكريم المفرج

حكم مصافحة الكافر

خالد بن سعود البليهد

السؤال :

السلام عليكم هل يجوز للمسلم مصافحة الكافر. وهل السلام عليهم ينقض الوضوء.
الجواب : 

وعليكم السلام ورحمة الله.
الحمد لله. فقد ورد النهي في السنة الصحيحة عن إلقاء السلام على الكفار من أهل الكتاب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه). رواه مسلم. وهذا يدل على تحريم السلام على اليهود والنصارى وهذا الحكم عام لجميع الكفار فلا يحل للمسلم أن يسلم عليهم لأنهم ليسوا أهلا للسلامة والنصرة والمودة والتكريم ولكن إذا سلموا علينا جاز لنا أن نرد عليهم بقولنا: (وعليكم) ولا نزيد على ذلك لما ثبت في مسند أحمد من حديث أبي بصرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا مارون على يهود فلا تبدؤُوهم بالسلام فإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم). ويجوز لنا أن نحييهم بأي تحية عامة لا يذكر فيها السلام والرحمة والبركة كقول مرحبا وصباح الخير وأهلا وسهلا. واتفق الأئمة الأربعة على تحريم ابتداء السلام على الكفار ولا عبرة بمن شذ وجوز السلام عليهم ممن تأول النصوص وحملها على الكراهة أو صدر الإسلام ونحو ذلك من التأويلات الفاسدة المخالفة للسنة الصريحة.

أما المصافحة فلم يرد فيها نص خاص لكنها من جنس السلام وقد كره الإمام أحمد وغيره من السلف مصافحتهم فلا ينبغي للمسلم مصافحتهم لما في ذلك من إظهار المودة والإكرام ولكن إذا صافح الكافر المسلم فلا حرج عليه أن يصافحه على سبيل المكافئة والرد بالمثل وينوي بذلك دعوته وهدايته للدخول في الإسلام. وإذا صافحه ابتداء كان مخطئا ولم ينتقض وضوؤه بذلك لأن الكافر بدنه طاهر كالمسلم ونجاسته معنوية ليست حسية فلا تؤثر على نجاسة بدنه وما باشره فمس بدن الكافر وعرقه وريقه لا ينجس ولا ينقض الوضوء مطلقا. وإذا كان الكافر مباشرا للخمر والخنزير ووجد أثر النجاسة فيه فيجب غسل اليد في هذه الحالة مع بقاء صحة الوضوء.

والمسلم إذا تمسك بأحكام السلام والتعامل مع الكفار كان عزيزا بدينه مستوثقا بربه مهتديا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولم يشعر بالمهانة وكان ذلك من أعظم أسباب ثباته على دينه أما إذا تساهل في ذلك وتودد للكفار ووالاهم على حساب دينه أصيب بالذل وفقد أعز ما يملك وعرض نفسه لسخط الله وكان ذلك سببا في نكوصه عن دينه والعزة لله ورسوله وللمؤمنين.
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

خالد بن سعود البليهد
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة
binbulihed@gmail.com

لوحات سوريا...لية!

بقلم : الرشيد

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم

اللوحة الأولى : 
في الثامن من آذار عام ألفين وأحد عشر اجتمع كبار درعا من شيوخ و وجهاء وسياسيين يهتفون (الأسد للأبد ) ... قبلها بأيام كتب أطفالهم على جدار المدرسة (الشعب يريد إسقاط النظام ) ... لا غرابة ... كانوا يعلمون آبائهم أبجدية الحرية !

اللوحة الثانية : 
حمزة الخطيب طفل خرج في مسيرة لفك الحصار عن أهل درعا , يُعتقل , يبصق ضابط التحقيق في وجهه و يسحب من بين يديه الغضتين كيساً للمعلبات ثم يرميه لأحد جنوده الجياع . بعد أشهر من التحقيق الشفاف يسلم جثة مشوهة لذويه والتهمة : جاء ابن الثلاثة عشر ربيعاً لسبي واغتصاب النساء !

اللوحة الثالثة : 
أثناء حصار درعا -وهي في أقصى الجنوب - يرفع متظاهرون من القامشلي - وهي في أقصى الشمال- لافتات تقول (يا درعا نحنا معاكم للموت ) , يخرج الإعلام السوري ليصف المتظاهرين (عملاء للخارج ) و ( غير وطنيين ) ! بعدها بأيام تُنظم مسيرة في طرطوس ترفع فيها أعلام حزب الله وإيران ليخرج الإعلام السوري ويصف المسيَّرين بأنهم خرجوا ليعبروا عن (ولائهم للوطن ) !

اللوحة الرابعة :
 يعتصم مئة ألف في ساحة الساعة في حمص بعد تشييع عدد من الشهداء. الساعة الثانية ليلاً يفتح أفراد من المخابرات الجوية النار مباشرة على المعتصمين .الساعة الخامسة صباحاً تأتي الجرافات لتحميل الجثث ثم تأتي سيارات الإطفاء لغسل الشوارع , لم يكن هناك ما يستدعي وجود سيارات الإطفاء سوى ... برك الدم المسفوك !

اللوحة الخامسة :
 تخرج تظاهرة في دمشق يُحمل فيها الشيوعي البارز رياض سيف على الأكتاف , يهاجم الأمن المظاهرة و يضرب ويعتقل الرجل السبعيني الوقور . في اليوم التالي وعند السؤال عنه كان الجواب أن هذا الشيوعي المخضرم متهم بتأسيس إمارة سلفية !

اللوحة السادسة : 
يوم الجمعة يخرج التلفزيون السوري ليصور في حي الميدان , تخرج مظاهرة حاشدة , يعطيها المصور ظهره , ويصور الجهة المقابلة والمذيع ( في الأستوديو ) يردد : لا شيء في الميدان ! ... السؤال هنا : لماذا لا ينقل التلفزيون الصوت مع الصورة !

اللوحة السابعة : 
يذهب الطفل ساري ساعود لشراء البسكويت من عند جاره البقال , ترسله الأم بكل اطمئنان , يصادف نزوله للشارع اقتحام الأمن للحي , يصاب الطفل وتنوح أمه فوق صدره وهي تشتم الأمن والجيش . بعد ساعات في المشفى يأتي التلفزيون السوري ليصور مشاعرها ( مباشرة ) و (على الهواء ) وهي تقول لو أن الجيش كان موجوداً لما قضى ابنها ! ...التلفزيون السوري قال أن الأم لا يمكن أن تكذب في مثل وضعها ... بالتأكيد وخصوصاً ما قالته بعد دقائق على مقتله !

اللوحة الثامنة :
 يخرج علينا وزير خارجية النظام السوري بسبق صحفي عن وجود السلفيين في سوريا مدعوماً بفيديو يتم بثه أمام العشرات من الصحفيين . بعد ساعات يخرج أبطال هذا الفيديو وهم من سلفيي لبنان لدحض أقوال الوزير بالأشخاص والأمكنة ! تعقيب وزير الخارجية على الفضيحة أن الفيديو صحيح لكن الإخراج سيء. لا غرابة ... فربما قسم (الإخراج) في المخابرات السورية لم يصل بعد لمستوى الدراما السورية في الفن والإبداع

اللوحة التاسعة : 
عند اقتحام باباعمرو في حمص وبعد دكها بمئات الصواريخ خرج القائد الملهم صاحب الوعد الصادق حسن نصر الله ليقول أن لا شيء بحمص سوى بضع طلقات نارية ! المشكلة أن الطفل الشهيد حمزة بكور لم يستطع أن يجيبه حينها ...فقد أطاحت إحدى القذائف ( الناعمة) بنصف وجهه الجميل !

اللوحة العاشرة :
 تهبط طائرة الرئيس المظفر في بابا عمرو لمدة ربع ساعة ليظهر فيها أمام الكاميرا متحدياً أحد الشيوخ من إمكانية ذهابه إلى باباعمرو وإلقاءه خطاب أمام أهل الحي ! قبل الرئيس التحدي و خطب أمام البيوت المهدمة . جاءه تحد ثان وهو أن تخرج من الحدود السورية طلقة واحدة باتجاه إسرائيل ! لم يفعلها ... طالما أنه قال (مجنون من يقتل شعبه ) !

اللوحة الحادية عشرة : 
انشق معاون وزير النفط ليخرج علينا سيادة الوزير شخصياً ليقول أن معاونه كان متورط في كثير من قضايا الفساد والرشوة ! ربما نسي السيد معاون الوزير درج مكتبه مفتوحاً بعد انشقاقه وتم اكتشاف فساده بالصدفة البحتة !

اللوحة الثانية عشرة :
 يصدر مجلس الجامعة العربية قرارا بوقف بث القنوات الرسمية السورية على الأقمار العربية , يثور التلفزيون السوري ويقول أنه عمل يناقض حرية الإعلام و يدين الروس القرار ويصفونه بأنه غير مهني . في الوقت الذي تعتبر فيه مشاهدة أكثر من عشر محطات في سوريا خيانة عظمى وربما جزاؤها الإعدام الميداني !

اللوحة الثالثة عشرة :
 الجعفري مندوب سوريا في الأمم المتحدة يستشهد بأبيات لنزار قباني الذي عاد لبلده بعد عشرين سنة في المنفى وبسبب قصيدة ... في تابوت !

اللوحة الرابعة عشرة :
 تستدعي بعض الدول سفرائها من دمشق فيخرج الإعلام السوري ليقول أن الدولة (طردتهم) و يُطرد سفراء النظام السوري بالجملة فيخرج الإعلام السوري ليقول أن الدولة (استدعتهم ) !

اللوحة الخامسة عشرة: 
في بداية الثورة السورية يخرج وزير الخارجية السوري وليد المعلم ليقول أنه سوف يمحي أوروبا من الخارطة , بعد سنة ونصف من الثورة خريطة العالم عند المعلم فيها ثلاثة دول فقط إيران ,روسيا والصين .

اللوحة السادسة عشرة :
 السلطات السورية تحذر من (مسلحين) يلبسون زي الحرس الجمهوري وأنهم ربما سيرتكبون مجازر لإلصاقها بالجيش ! الغريب في الأمر لماذا لم تطلب من السكان التصدي لهؤلاء (المسلحين) !؟

اللوحة السابعة عشرة:
 كل التفجيرات التي حدثت في دمشق وراح ضحيتها المدنيين نسبتها الحكومة السورية للقاعدة والمعارضة أما تفجير خلية الأزمة الذي لم يؤذ مدنياً واحداً اتهمت به الحكومة السورية جهات خارجية !

اللوحة الثامنة عشرة :
 الأسلحة الكيميائية لم تزعج إسرائيل طوال أربعين سنة , عندما اقتربت من أيدي الثوار صارت تشكل تهديداً جدياً لأمن (المنطقة) !

للوحة التاسعة عشرة :
 قنوات الإعلام السوري تسمي منشقي الجيش بالفارين دون أي توضيح عن سبب (الفرار الجماعي ) !

اللوحة العشرون :
 رفع بعض المتظاهرين لافتة يترحمون فيها على حافظ الأسد , زعموا أنه يستحق الرحمة فسوريا لم تكن لتتحرر لو لم يورث (أغبى) أبناءه السلطة !

ما صح وما لم يصح في شوال

أيمن الشعبان


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فهذه مجموعة مما صح وما لم يصح من الأحاديث التي نقلت ورويت عن النبي عليه الصلاة والسلام بخصوص شهر شوال وما يتعلق به من أحكام وعبادات، مع بيان حال كل حديث من حيث القبول والرد.

1- ( من صام رمضان وستا من شوال؛ فقد صام السنة ). صحيح.[1]

2- ( من صام رمضان، و أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر ). صحيح.[2]

3- (من صام رمضان، وأتبعه ستا من شوال؛ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ). موضوع.[3]

4- (من صام رمضان ، و ستا من شوال، و الأربعاء و الخميس، دخل الجنة ). ضعيف.[4]

5- (أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أرادَ أن يعتكِفَ، فلما انصرفَ إلى المكانِ الذي أراد أن يعتكفَ، إذا أخْبيَةٌ :خِباءُ عائشَةَ، وخِباءُ حَفصَةَ، وخِباءُ زَينبَ، فقال : (آلبرَّ تَقولونَ بهِنَّ ) . ثم انصرف فلم يعتكف، حتى اعتكف عشرًا من شوالٍ ) . صحيح.[5]

6- ( تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم في شوال وبنى بي في شوال فأي نسائه كان أحظى عنده مني وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال ). صحيح.[6]

7- ( أغمي علينا هلال شوال فأصبحنا صياما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد ). صحيح .[7]

8- ( تزوَّجَ أمَّ سلمةَ في شوالٍ ، وجمَعَها إليه في شوالٍ ). ضعيف.[8]

9- (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال ). صحيح.[9]

10- ( تكون هدة في شهر رمضان، توقظ النائم، وتفزع اليقظان، ثم تظهر عصابة في شوال، ثم تكون معمعة في ذي القعدة، ثم يسلب الحاج في ذي الحجة، ثم تنتهك المحارم في المحرم، ثم يكون موت في صفر، ثم تتنازع القبائل في الربيع، ثم العجب كل العجب، بين جمادى ورجب، ثم ناقة مقتبة خير من دسكرة، تقل مائة ألف ). موضوع.[10]

11- ( عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كنت أصوم شهرا من السنة فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : أين أنت عن شوال ؟ فكان أسامة إذا أفطر أصبح من الغد صائما من شوال حتى يتم على آخره ). ضعيف.[11]

12- ( أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر عمرتين: عمرة في ذي القَعْدَةِ، وعمرة في شوال ). صحيح.[12]

13- ( أنهاكم عن صيام يومين: الفطر والأضحى ). صحيح.[13]

14- ( قدمت المدينة و لأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية و إن الله تعالى قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الفطر و يوم النحر ). ‌صحيح.[14]

15- ( صام نوح الدهر إلا يوم الفطر و يوم الأضحى ). ضعيف.[15]

16- ( كان لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم و لا يطعم يوم النحر حتى يذبح ). صحيح.[16]

17- ( كان لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل " سبع " تمرات ). صحيح.[17]

18- ( كان يأمر بإخراج الزكاة قبل الغدو للصلاة يوم الفطر ). صحيح.[18]

19- ( كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى ). صحيح.[19]

20- ( كان يغتسل يوم الجمعة و يوم الفطر و يوم النحر و يوم عرفة ). ‌ضعيف.[20]

21- ( كان يقلس له يوم الفطر ). ‌ضعيف.[21]

22- ( من أحيا الليالي الأربع وجبت له الجنة : ليلة التروية و ليلة عرفة و ليلة النحر و ليلة الفطر ) . ضعيف.[22]

23- ( من أحيا ليلة الفطر و ليلة الأضحى لم يمن قلبه يوم تموت القلوب ). ضعيف.[23]

24- ( نهى عن صيام يوم قبل رمضان و الأضحى و الفطر و أيام التشريق ). ‌صحيح.[24]

25- ( يوم الفطر و يوم النحر و أيام التشريق عيدنا أهل الإسلام و هي أيام أكل و شرب ). صحيح.[25]

28/8/2012


----------------------------
[1] صححه الألباني في صحيح موارد الظمآن، رقم 768، من حديث ثوبان مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام.
[2] صححه الألباني في صحيح الترغيب، برقم 1009، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] ضعيف الترغيب برقم 608.
[4] ضعيف الجامع برقم برقم 12425.
[5] صحيح البخاري رقم 2034.
[6] صحيح ابن ماجة برقم 1632، عن عائشة رضي الله عنها.
[7] صحيح ابن ماجة رقم 1348، عن رجل من الأنصار.
[8] السلسلة الضعيفة برقم 4350.
[9] صحيح أبي داود برقم 1991.
[10] السلسلة الضعيفة برقم 6178.
[11] ضعفه البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة برقم 3017، 3/425.
[12] صحيح أبي داود برقم 1738.
[13] صحيح الجامع برقم 4282، ويوم الفطر هو أول يوم من شهر شوال، وهو ذاته يوم عيد الفطر، وهو يوم واحد فقط.
[14] صحيح الجامع برقم 7831.
[15] ضعيف الجامع برقم 3466.
[16] صحيح الجامع برقم 4845.
[17] صحيح الجامع برقم 4865.
[18] صحيح الجامع برقم 4885.
[19] صحيح الجامع برقم 5004.
[20] ضعيف الجامع برقم 4590.
[21] ضعيف الجامع برقم 4595، ويقلس له أي يضرب بين يديه بالدف والغناء.
[22] ضعيف الجامع برقم 5358.
[23] ضعيف الجامع برقم 5361.
[24] صحيح الجامع برقم 6964.
[25] صحيح الجامع برقم 8192.

إمكانيات فهم القرآن

إبراهيم بن عمر السكران

الحمد لله وبعد،،
أخبرنا الله في كتابه بأن هذا القرآن كتاب هداية للناس، كما قال تعالى (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ)[البقرة:185].
لكن هل هذا كل شيء؟ يعني هل يتفاوت الناس في فهم القرآن بحسب المعايير المادية المحسوسة فقط: الاستعدادات العقلية، المعرفة المسبقة باللغة، الخ؟

أم أن الناس يمكن أن يتفاوتوا –أيضاً- في فهم القرآن بحسب (المؤهلات الإيمانية)؟

الحقيقة أنه جاءت إشارات في كتاب الله تؤكد أن المؤمن التقي ينكشف له من معاني القرآن ما لا ينكشف لغيره، كما قال تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)[البقرة:2]..

فبالله عليك قارن بين قوله عن القرآن في أواخر البقرة (هدى للناس) وقوله عن القرآن في أول البقرة (هدى للمتقين) يستبين لك أن هداية القرآن على مراتب، وأن هداية القرآن العامة تكون للناس جميعاً، ولكن يتشرف أهل التقوى بهداية خاصة، فيها قدر زائد من العلم والمعرفة..

ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن المعاصي حجاب يحول بين القلب ودقائق القرآن .. فأي حرمان تسببت فيه خطايانا ..
غُمّت علينا معاني القرآن الخاصة بسبب غيوم الذنوب.. وهل وراء ذلك من شؤم؟!

أَقرأُ القرآن .. وتمر بي الآية .. وأتأملها.. وأشعر أن فيها معانٍ خاصة كلّ بصري أن يراها بسبب ما اقترفته الجوارح .. فيصيبني من الحسرة والألم ما الله به عليم ..

أَقرأُ الآية .. وأعلم أنه قد تصفحتها عيون الأتقياء قبلنا في عصور مضت، وتنعمت بمعانٍ، وتجلت لها معارف، وتفتحت لها تصورات.. لأنها قلوب تستحق.. فتزداد حسرتي.. وأردد (هدى للمتقين)..

وأتذكر قصص السلف التي رويت في تراجمهم، وما ذكر عن تهجدهم بالأسحار، وقيام بعضهم الليل كله بآية يرددها من كتاب الله، وجاء هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي ذر عند النسائي أيضاً..
أتذكر هذه المشاهد من قيام بعض السلف ليلة كاملة بآية واحدة وأقول في نفسي: يا ترى كم هي المعاني التي فتحت لهذا المتهجد في قيام الليل حتى أصبحت قراءة الآية لا تزيده إلا شغفاً بإعادتها!

أتخيله وهو يتلوا، ثم يعيدها مرةً أخرى، وكأنما لم يرتوِ منها بعد، فيعيد تلاوتها ويغوص عقله في معانيها.. وتنسكب عليه من معاني الآية ما يحجب عن القلوب المنهكة بخطاياها..

أتخيل هذا المتهجد وهو يغص بعبراته، وتضطرب لحيته، في زاوية قصية قد اضطجع الليل على جوانبها.. لا تسمع فيها إلا صوت آية واحدة، لا تنتهي حتى تعود مرةً أخرى ..
الآية واحدة والمواجيد أصناف..

بل إن الله تعالى جعل في نفس كل مسلم برهاناً على هذه المسألة، وعلى سبيل المثال: تجد المسلم حين يقرأ القرآن وهو في صفاء الصوم، أو خلوة الاعتكاف: ينفتح له من المعاني والتأثر والاهتداء، ما لا ينفتح له وهو يصلي بلا خشوع –مثلاً- ويهذّ قصار السور بهذرمة المستعجلين!

بل إن الآية الواحدة ذاتها تقرؤها مرة فتطير بها في أفلاك الإيمان، وتتمنى أن تجد أحداً تحدثه عن معانيها بانبهار.. وتستغرب كيف فاتت على الناس هذه الآية؟! ثم تقرؤها في حالٍ أخرى ولا تسترعي منك أي انتباه!
الآية واحدة .. لكن القلب استيقظ مرة .. وتغشّاه النعاس أخرى!

فإذا كانت النفس الواحدة يتفاوت فهمها بحسب أحوال زكائها، فكيف بالنفوس المتعددة المتباينة في مدارج السلوك إلى الله؟!

القلوب الحية تجري في مضمار المعاني القرآنية .. والقلوب المكبلة بالخطايا ما زالت تزحف في الخطوط الأولى!

ويظن بعض المنتسبين للثقافة الليبرالية ممن يقحم نفسه في تفسير النصوص الشرعية أن قدرته على فهم النصوص تساوي أو تزيد على (أهل التقوى) .. ولا يستطيع عقله المصنّع خارجياً أن يستوعب أن أئمة الدين الذين لهم (لسان صدق عام) في الأمة؛ قد منحهم الله قدراً زائداً في فهم القرآن والاهتداء به..

ويدفعهم إلى هذا التصور محركات مختلفة، منها تشربهم التام للمعايير المادية الحسية، وجهلهم بالمعايير الإيمانية الغيبية ..
وأحياناً يكون هذا الأمر مدفوعاً بما يمكن تسميته (الغرور الثقافي) فهو يشعر أن اعترافه بأن (أهل التقوى) يتمتعون بقدر زائد في فهم القرآن أن هذا يقدح في كبريائه المعرفي، ويخلق تراتبية إيمانية في نطاق العلم ترتطم بأوهام المساواة الأرضية..

مثل هؤلاء يحتاجون أن يتدبروا قول الله (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)[فصلت:44] فانظر كيف أن القرآن واحد، والأثر في الاهتداء به متفاوت، فهو لأهل الإيمان (هدى وشفاء) وهو لمسلوبي الإيمان (وقر وعمى)!

ومثل هؤلاء يحتاجون أن يتدبروا قول الله (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)[الإسراء:82] فالقرآن لأهل الإيمان (شفاء ورحمة) ولمن ظلموا أنفسهم (خسارة).

وكما أن أهل الإيمان يتفاوتون في إيمانهم، فالهدى والشفاء والرحمة يتفاوت بحسب ما في القلوب من الإيمان.
وكما أن مسلوبي الإيمان يتفاوتون في فجورهم، فالوقر والعمى والخسارة تتفاوت بحسب ما في القلوب من الفجور.

وإذا تأملت ظاهرة العلم في كتاب الله، وبشكل أدق مصادر وينابيع العلم؛ وجدت إشارات القرآن لما يؤكد هذا المعنى، فالقرآن في مواضع كثيرة يوضح أن (العلم) ليس بفضل المتعلم، وإنما بفضل الله، تأمل قول الله مثلاً (وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)[البقرة:282] وقول الله (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ)[المائدة:4] وقول الله (كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)[البقرة:239]، ولاحظ فيها نسبة الأمر إلى معلم آدم ومفهم سليمان سبحانه..

بل لاحظ كيف يشير بالفعل المبني للمجهول (أوتوا) إلى المصدر الخارجي للعلم (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)[العنكبوت:49] وقول الله (قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)[النحل:27] واستعمال التعبير (أوتوا) إذا أتى ذكر العلم جاء في مواضع متعددة في كتاب الله.

هذه الظاهرة التي نبّه عليها القرآن، ودلّت عليها وقائع الأحوال؛ يمكن استثمار دلالاتها في عدة نطاقات، فمن ذلك:

أن المرء إذا مرت به حالٌ إيمانية وشعر بزكاء نفسه وصفاء إيمانه فلينتهز الفرصة وينشر مصحفه ويقرأ كتاب الله ويتدبره، ويتمعن في مضامينه ودلالاته وهداياته، ويستجلي ما وراء الدلالات المباشرة، فكما أن الطالب يختار أصفى الأوقات للمذاكرة، فكذلك المؤمن يختار أزكى لحظاته للتدبر، بل وليدوّن في مثل هذه الحال سوانح المعاني التي تمر به..

ومن ذلك أن المحب للعلم والمعرفة الشرعية يضع نصب عينيه أن منزلته في تحقيق العلوم الشرعية وحسن الاستدلال من النصوص مربوط بتقواه لله، وأنه كلما ازداد تقوى وورعاً فإن الله يفتح عليه في تحرير المسائل الشرعية والاستدلال عليها.

ومن ذلك أن طالب العلم يراعي في اختيار الشيخ الذي يدرس عليه، أو يعتني بترجيحاته؛ ديانة الشيخ وتقواه ونسكه وورعه، فإن الشيخ التقي العابد يوفق للحق، كما قيل لإمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله: من نسأل بعدك؟ فقال (سلوا عبد الوهاب الوراق، مثله يوفق لإصابه الحق)[بحر الدم لابن عبد الهادي، 103]
فرشح الإمام أحمدُ عبدَ الوهاب الوراق برغم أنه أقل علماً من بعض أقرانه بسبب أنه أكثر صلاحاً وتقوى منهم، حتى أن الإمام أحمد قال مرة (من يقوى على ما يقوى عليه عبد الوهاب)..


وفي هذه المسائل تفاصيل إضافية أخرى تستحق أن تبسط في غير هذا الموضع، كمسألة مصدرية (الإلهام) في مبحث مصادر المعرفة، ومسألة (القلب المعمور بالتقوى إذا تكافأت عنده الأدلة أو انعدمت، فرجح بمجرد رأيه؛ فهو ترجيح شرعي في حقه) ونحو هذه المسائل.

والمراد فقط الإشارة إلى دور (الإيمان) في (العلم)، وأن الإيمان ليس مطلباً مستقلاً عن العلم لا صلة له به، وأن وسائل العلم ليست محصورة في الوسائل والبرامج الحسية المادية.

ولذلك كله قال الله عن القرآن تارة (هُدًى لِلنَّاسِ) وقال عنه تارة (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، فالأولى هداية قرآنية عامة يشترك فيها الناس، والثانية هداية قرآنية خاصة يختص بها أهل التقوى.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه

سوانح قرآنية (1)

إبراهيم بن عمر السكران

الحمد لله وبعد،،

1- قرأ الإمام اليوم فينا آية انهمرت مع حروفها أمام ناظري كثيرٌ من السجالات الفكرية المعاصرة، وشعرت أن هذه الآية تجرد الكثير من هذه السجالات من قيمتها، وتحكم عليها بـ(عدم الجدوى المستقبلية)..

تأمل -بكيفية خاصة- مطلع الآية واللفظ المستخدم في التعبير، إذ يقول الله تبارك وتعالى:

(لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء: 114].

هكذا بكل وضوح "لا خير" ..

نفي الخيرية عن كثير من أحاديث الناس وكلامهم واستثناء أمورٍ من عُدّة الآخرة، ومما يستعد به للقاء الله..

بالله عليك .. امسح بعينيك المشهد الفكري المعاصر، وسترى كثيراً من النجوى الفكرية تضمحل تحت قوله تعالى "لا خير في كثير من نجواهم"..

يسكبون ساعات المقاهي في نقاشات فكرية متشعبة .. تُسمع شرارتها الأولى وتغيب البقية وسط الضجيج .. والله يقول: "لا خير" في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس.. فيا ضيعة الأعمار..

2- 
ثمة بعض الناس فيه طيبة فطرية تدفعه للإمعان في تفهّم الناس، وهذه خصلةٌ راقية بديعة، ولكن المحزن أن مثل هؤلاء الطيبين قد ينزلون أحياناً بطيبتهم في المعركة الخطأ، فيسبب هذا لهم أضراراً قد تهدد مستقبلهم الأبدي..

فمن ذلك مثلاً أنك تجد في مضمار الفضائيات وأرفف المطبوعات من يبث أفكاراً فيها قدح في السنة النبوية ومصادرها المعظّمة في نفوس المسلمين، أو خوض في أعراض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو تحريف لبعض الأحكام الشرعية المصادمة للثقافة الغربية، مثل العقوبات الشرعية التي تناقلها أهل الإسلام لكنها تنخس فهم الغربيين للحرية، ومثل أحكام الجهاد والمرأة والولاء والبراء الخ مما صار بعض الناس يحرفها تحت ضغط ثقافة المنتصر الغربي..

مثل هذا المشهد لم يعد خفياً.. ورموز القدح والتحريف لم يعودوا أخفياء أيضاً.. بل كثيرٌ منهم خلع عمامة الحياء ونفش شعر التغريب..

ولكن المحزن أن تجد بعض الطيبين يظن بسبب نقاء سريرته أن الدفاع عن هؤلاء وأضرابهم، وتطلب الأعذار لهم، والتماس المسوغات والمبررات للتسامح معهم؛ أنه من مقتضى رحابة الصدر، وحسن الخلق، والتسامح المحمود، وحب الخير للمسلمين، ونحو هذه المعاني الجميلة..

هذا الدفاع عن أهل الأهواء دفاع خاطئ، قد يكون ناتجاً عن شعور فطري جميل لكنه وضع في غير موضعه، فصار أشبه بمن يكلم أهل البلد عن حرمة الدماء والعدو يكسر الأقفال!

وقد جاءت في كتاب الله موعظة عظيمة تهز القلوب لهؤلاء الطيبين الذين يدافعون عن من يقعون في الأحكام الشرعية، ويلتمسون الأعذار لهم، والتسامح معهم.

إقرأ هذه الآية.. وتذكر بعض المنحرفين فكرياً ممن دافعت عنهم في وجه الناهين عن المنكر.. ثم تخيل أن هذا الخطاب القرآني لك، لك أنت..

والذي أنزل سورة النساء على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الموعظة في سورة النساء يقف لها القلب على أطراف أنامله..

بالله عليك اقرأ عتاب الله لبعض الطيبين الذين يدافعون عن أهل الأهواء في قوله:

(هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[النساء:109].

تخيل فقط -لا سمح الله- أن الله يذكر منك هذا الدفاع غير المشكور (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا)!

تخيل أن الله يذكر مجادلتك عن من يقع في أحكامه سبحانه، أو أحكام نبيه، أو في منزلة صحابة نبيه الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه! (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا)..

كلما نازعتك نفسك الطيبة للدفاع والتسامح مع من يقعون في الأحكام الشرعية ويرققون دين الناس ويحسنون لهم المنكرات بالاحتجاج بالخلاف .. فتذكر هذه الموعظة القرآنية (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

3- 
حولك أصحاب وأصدقاء ومعارف كثيرون، ولا شك أنهم في ذهنك مراتب ومقامات..

سأسأل نفسي، وسل نفسك: كيف رتبت أهمية أصدقائك وأصحابك من حولك؟

ولكن قبل ذلك: ما معنى ترتيب الأهمية؟

ترتيب الأهمية ينعكس على المنزلة في القلب، ونمط التعامل مع الأصدقاء، فمثلاً: تفاوت طريقة تعاملك مع اتصالاتهم، واستجابتك لطلباتهم ودعواتهم، وتوقيرهم في المجلس، ونحو هذه السلوكيات التي تتأثر جوهرياً بحجم أهمية الصديق في النفس..

حسناً .. لنعد الآن إلى أصل السؤال: على أي أساس رتبنا أهمية أصدقائنا؟

قد يرتب بعض الناس أهمية أصدقائه ومعارفه على أساس مدى المصلحة والمنفعة المرجوة منهم، فصاحب المنصب، و من يرجى منه "واسطة" إلى وظيفة أو مستشفى أو دائرة حكومية؛ يحتل الأرقام الأولى في قائمة الأهمية.. فالأرقام الأولى محجوزة لمن تقول عنهم دوماً "جايك من طرف فلان"..

وقد يرتب بعض الناس أهمية أصحابه ومعارفه على أساس الأُنس والضحك والطرفة، والانسجام، واستملاح السهرات المشتركة، والتمتع بأحاديث الطريق، ونحوها..

وقد يرتب بعض الناس أهمية أصدقائه على أساس الاهتمام المشترك، فالمشجعون لنادي رياضي مشترك يتآلفون بينهم، وأصحاب الصيد والقنص يقربون بعضهم، وهكذا أصحاب السياحة أو النزهة البرية أو الإبل أو التجارة أو الفنون ونحوها من الاهتمامات التي يشترك فيها بعض الناس فيتآلفون بينهم وتصبح علاقتهم ببعضهم أمتن من علاقتهم بغيرهم.

هذه بعض معايير "الناس" في ترتيب الأصدقاء .. ولكن ما هي معايير "رب الناس" التي عرضها لنا لترتيب أصدقائنا ومعارفنا وأصحابنا؟

حسناً.. تأمل حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي عاشها في الحجاز، فقد كان حوله كثيرٌ من الناس، فانظر صفة الصاحب التي أراد الله لنبيه أن يلزمه ويجعله الصديق المقرب، يقول الله لنبيه:

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[الكهف:28].

يا الله .. أي مؤكدات هذه؟! الملازمة لحد المصابرة "واصبر نفسك" .. ثم تأكيدها بنفي الضد "ولا تعدُ عيناك عنهم" .. حتى عينك لا تمل عنهم إلى سواهم! فلا تجاوزهم إلى غيرهم.. وهذا منتهى الارتباط..

ومن هم؟ إنهم الذين "يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه"!

هذه مؤهلات الصديق الأكثر أهمية حسب كتاب الله..

فتش في أصحابك وأصدقائك عن المتعلقين بالله يريدون وجهه، واصبر نفسك معهم، ولا تعدُ عيناك عنهم، واجعلهم الصديق رقم (1) في قائمة الأصدقاء حسب الأهمية..

وابحث في قائمة أصحابك عن أصدقاء المصلحة، وأصدقاء الأنس؛ واجعلهم في الأهمية بعد قائمة (الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه).

4- ما أكثر ما نجد في الكتب الفكرية من يفخّم شأن الشك وعدم الحسم.. ويقزّم اليقين واليقينيات.. بل ويطالبون أن يتخلص الخطاب الديني من اليقين! ولذلك تجدهم يكثرون من ترداد مقولة (إلى المزيد من طرح الأسئلة)! فيفرحون بالأسئلة ولا يكترثون كثيراً بحسم الإجابات! لأن الإجابة تعني الالتزام بأمرٍ ما.. والسؤال المفتوح يجعل الخيارات متاحة دوماً لما هان على النفس والتذت به.. والهوى المتغير ألذ من الالتزام بموقف..

على أية حال.. تأمل في مدح كثيرٍ من الكتب الفكرية للشك والحيرة والأسئلة المفتوحة .. وقارن كيف يعظّم الله كتابه بأنه منزّه عن الشكوك والتردد (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ)[البقرة:2]. ويقول (وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ)[يونس:37]. وقال (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[السجدة:2].

فهذا القرآن لا ريب فيه، وقضايا القرآن التي تضمنها لا ريب فيها .. فأين هذا من مرضى الحيرة والمحرومين من اليقين؟!

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه

زينةُ العلماء، وحليةُ الأولياء/ عمر بن سليمان الأشقر

د. محمد بن يوسف الجوراني

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم

فُجِعت أمة الإسلام فاجعة عظيمة، ونزلت بها مصيبة كبيرة، بوفاة عالِـم من كبار علمائها، وفقيهٍ من أفقهِ فُقهائها، ذلكم العالِـم العامل، الإمام المجاهد الرَّباني، التَّقي النَّقي الخفي، زينة العلماء، وحِلْية الأولياء، الشَّيخ العلَّامة الإمام عمر بن سليمان الأشقر: رحمة واسعة، وأنزل على قبره الرَّحمات، ورفع منزلته في أعالي الدَّرجات.
رحل هذا الإمام المبارك وقد كان مِلْئَ السَّمع والبصر، رحل بعد أن ألـمَّ به داء البطن إلماماً شديداً، رحل وكأنِّي غير مُصدِّق لهذا الرَّحيل، إي والله، فعُدْتُ بعد دفنه:، وكانت يدي آخر مَن مسَّت جسده الطاهر حين أنزلتُه في قبره، وكشفتُ عن وجهه الوضَّاء المُبتسم، وقد همستُ له همسة يعرف شجونها وأسرارها:، عدتُ أَهِيمُ على وجهي وكأني فقدتُ كلَّ شيء والله، عدتُ كأني أسير تائهاً ضائعاً يتيماً، عدت وقد سُئلتُ في مسألة يسيرة جداً، فلم أُحسِن جواباً! ولم أعرف ما أقول إلا: «رحل الشيخ، فالله أعلم»، فعادوني السائل مُتعجِّباً يقول: الله أعلم! فقلت: هو ذاك.
عدت وأنا أتذكَّر حديث أنس رضي الله عنه حين قال عن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: لـمَّا كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء. 

وها نحن تلامذة الشيخ: 
اليوم نتألَّـم شديداً برحيله: عنَّا، فإذا كان هذا شعورنا نحن في هذا العصر، فيا لله كم كانت المصيبة على الصحابة رضوان الله عليهم في فقدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أعظم مَوْجِدتهم لرحيله!
في لحظةٍ واحدة أيقنتُ أنَّ الشيخ: رحل، نعم رحل لأنِّي كنتُ أَرْجعُ إليه في كل أموري العلمية، أرجع إليه في سُؤالاتي واستشكالاتي، في مراجعاتي وتأليفاتي وتحقيقاتي، فكان نِعْم الرِّدء، والُمرشِد، والنَّاصِح، والعالِـم، والُمربِّي، والمُقدِّم، و..، كلُّ هذا لن يكون بعد اليوم، اللهم آجُرْني في مصيبتي واخْلُف لي خيراً منها، نعم رحل هذا العالم الرَّباني إلى رضوانٍ من الله، رحل بعد سبعين عاماً ونيِّف، أُسِّست على خير، وأرجو الله أن تكون خُتِمت بخير وعلى خير، أحسبه والله حسيبه. عدتُ إلى مكتبتي أقرأ كتبه ــ ولها مكان خاص مُميَّز عندي مطبوعها ومخطوطها ــ لكنَّها كانت قراءة من نوع آخر، شرعتُ أقرأ لأُسلِّي نفسي بقراءة كتبه وكأنَّ شيخي: إمامي يُخاطبني؛ أشعر بحياته، وبدِفْءِ كلماته، وقُرب حنانه، بل وبحركاته الهادئة، وهمساته الحانية، ونظراته الأبوية، فأتنسَّم عبير نفَسِه، وشفافية روحه، وعاطفة قلبه، آهٍ يا شيخي، كم هي الشُّجون والمُنون، كم هي عزيزةٌ على قلبي، تلك اللِّقاءات العلمية، والجلسات الأُنسية، والنُّزهات الأخوية، كم هي عزيزةٌ على قلبي، فمن حُبِّي لها أحتفظ بها في جنبات صدري، خلِّها في جُوَّانيِّ قلبي؛ فإنِّي أغار عليها غيرة شديدة
لا تُذِعِ السِّرَّ المصُـــون فإنَّني --- أغارُ على ذِكْر الأحبَّة مِن صَحْبي
ويحي ماذا أكتب؟
وهل تتَّسع الصفحات، وهل يسعفني القلم لأبثَّ ما عندي الآن؟ رحماك ربي، عدتُ، وقد مرَّ بي شريط الذكريات مع شيخنا، فخَلصتُ إلى أنَّ مثل هذا العالِـم الرَّباني الُمبارك الذي عاش كريماً مهيباً عزيزاً، وتُوفِّي كريماً مهيباً عزيزاً شهيداً ــ إن شاء الله ــ عزيز الوجود، فمن عرف كمعرفتي، وشاهد كمشاهداتي خَبُر ذلك، إيه يا شيخي، مَن لي من بعدك، بعد الله سبحانه؟ من لي بتلك الهيبة الرَّبانية، التي كانت في حياتك، وفي مماتك، التي كنتُ كلَّما لقيتك فيها بهيبتك وجلالك وسمتك انتفعت بك، سبحان ربي:
علوٌّ في الحياة وفي الممــــــات ** ** بحقٍّ أنت إحدى المعجزات
تالله إنَّ حياة وممات هذا العالِـم المجاهد الرَّباني فيها من الشَّأن ما ينبغي أن يقف معه كلُّ مَن يبغي صلاح نفسه والارتقاء بها عملياً وعلمياً، مُنذ النَّشئة وحتى الممات، وكم في حياته من عِبَرٍ وأيُّ عِبَر، وها أنا ذا أبثُّ لك بعض هذه العِبَر والشجون، وغايتي أن تجد فيها أُسوة، ومنفعة، وفائدة، وأرجو أن يكون هذا بعض وفاء لشيخنا وعالمنا؛ وسأسوقها لك من خلال ثلاث محاور:

المحور الأول: مُهيِّئات الحفظ والنُّبوغفي حياة هذا العالِـم الرَّباني منذ الصِّغَر:
أراد الله سبحانه لهذا الفتى منذ نُعومة أظفاره أن يكون له شأن، وأن يكون شَامةً في جبين عصر من العصور، فكان ثمَّة أمارات للحفظ الرَّباني له، وثَمَّة مُهيِّئات وإرْهاصَاتٌ للنُّبوغ والمنزلة الرفيعة، فهاك بعضاً منها أمام عينيك، وفي مُتناول يديك:
1. حفظُ الله له مِن قتل اليهود: يُخبرني شيخنا: عن أُعجُوبةٍ وقعت له، وكيف أنجاه الله من قتل اليهود وهو رضيع، فيقول: أخبرتني الوالدة أنَّ الإنجليز حين شَنُّوا الحرب علينا، ودخلوا منازلنا، خرَّبوها وأفسدوها، وكنتُ في ذلك الوقت رضيعاً، ولـمَّا دخلوا بيتنا، كنتُ فيه، فأعمى الله أبصارهم عنِّي، فما أصابني بفضل الله ومنتَّه أذى.
قلتُ: وهذه إشارة لحفظ الله له لِـمَا سيكون مِن خَبره وشأنه في مُقتبل عمره، وقارن ذلك مع قصة نبي الله موسى ؛ وكيف حفظه الله في الصِّغَر ؟!
2. مرض الصِّغَر يحدُّه من اللَّهو واللَّعب حتى الثامنة عشرة من عمره مع الرَّعاية الخاصة: أُصيب شيخنا: في صغره بمرض كدَّر عليه طِيْب العيش لأجلٍ محدود، فيقول شيخنا: عنه:«نَعِمْتُ في الصِّبا بأيام كثيرة طيبة، ولكن نغَّص طِيْب العيش فيها مرضٌ لازمني إلى سِنِّ الثامنة عشرة، وحدَّ من اللَّهو واللَّعب الذي يطيب للفتيان في مرحلة الصبا» مما جعل من ذلك رعاية خاصة في صغره من والدته رحمهما الله.
قلت: فلعلَّك تلحظ أنَّ في هذا البلاء ما هو خير لهذا الفتى مِن أن ينخرط في صفوف اللَّاعبين واللَّاهين، وما لا يُحمد من الفِعَال، ويكاد يُصدِّق ذلك، أنَّ هذا الفتى لم يكن طريح الفراش دوماً، بل مع عِلَّته استطاع أنْ يصعد قمم الجبال في قريته، ويكأنَّها إشارة للرِّعاية والعناية عمَّا لا يُحمد، ثم الدُّربة على المشاق الآتية فيما بعد، وقارن ذلك مع قصة النبي صلى الله عليه وسلم حين صرفه الله عن حضور سمر الجاهلية ذات مساء، فضرب الله عليه النَّوم، فما أيقظه إلا مسُّ الشمس، فكان هذا صارف عن السَّهوة، كما أنَّ ذاك صارف عن الغفلة، فمن يفهم لُطف الله به؟ ومِن هذا اللُّطف أيضاً:
3. رؤيةٌ منامية في العاشرة من عمره: ففي تلك الحالة المرضية لهذا الفتى اليافع، يرزقه الله تعالى رؤية قلَّ نظيرها لمن كان في سِنِّه، حدَّثني شيخنا: قال: رأيت حين كنتُ في العاشرة من عمري، أني أتجوَّل بين حقول القرية، وبينما أنا أمشي، إذ بالطريق ينقسم إلى قسمين: طريق فيه ارتفاعٌ وصعود إلى أعلى الجبل، وهو صعب وشاق، وطريق إلى أسفل الوادي، وهو سهل ويسير، فاحترتُ أيهما أسلك فرأيتُ فيما أُلْـهِم لي آنذاك النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق رضي الله عنه، فأشارا إليَّ أنِ اسلُك الطريق العالي المرتفع ولو كان صعباً، فسلكته، وفرحت بها فرحاً عظيماً. فكان بحمد الله هذه الرفعة العلمية، والمنزلة التي بوَّأها الله له في الحياة وبعد الممات، فقُلِّي بربِّك: أوَ تظنُّ هذا عبثاً؟
4. توفيقُ الله وهدايتُه بصرفه عن السفر لبلاد الغرب: حدَّثني شيخنا؛ أنه كان في مقتبل عمره يرغب بالسَّفر إلى هناك، وكان يودُّ أن يدرس الدراسة العلمية التجريبية، ولكنَّ الله أبدله خيراً من ذلك كلِّه، فها هو يَقصُّ مِن خبره فيقول عن إرادة الله به الخير في عدم سفره: «أنا أعلم اليوم أن عدم سفري كان هو الخير، فلو قُدِّر لي أن أنطلق إلى تلك الديار البعيدة الغريبة، فالله أعلم بما سيكون عليه حالي، قد أجمع المال والثروة، وقد أتبوأ المناصب، ولكن هل سيبقى لي ديني وإسلامي، وهل سأصبح داعية أدعو إلى لله على بصيرة، في الأغلب لا، لقد أراد الله بي خيراً ورحمني، وأختار لي، فسبحانه ما أرحمه وأحلمه» «صفحات من حياتي» (ص28).
قلت: تأمُّل هذا وحده يُغنيك عن تعليقي؛ لتَذهبَ به كلَّ مَذهب، وعلى نفسك فَقِسْ ما اختار الله لك، ووفَّقك له، وفتح عليك به، فتعاهد أمرك وشأنك، وفي كلٍّ خير.

المحور الثاني: الدُّروس والعِبَر من حياته ومماته، خذها في رياحين سبع:
حياة هذا العالم الرَّباني مليئة بالدُّروس والمواعظ والعِبَر، وعلى امتداد هذه السبعين عاماً ونيِّف، فقد كانت بساتين عِلْم، وعبادة، وخُلُق، وخشية، وإخلاص، وتواضع، وطِيْب نَفْس، وحُسْن مَعْشر، ولين جانب، وقُلْ ما شئت، فما حالي في هذه العُجالة إلَّا أن أقتطف لك من هذه البساتين الغرَّاء، وورودها الزهراء، ريحانة، وهذه الرَّيحانة كفيلةٌ أن تُنْعِم حياتك كلها إنْ أخذت بها، فكيف بالرَّياحين كلها؟ وهي التي بلَّغت هذا الإمام ما بلَّغته من العلم والمكانة والرِّفعة في الدنيا، وأرجو الله أن تكون شاهد حق ودليل صدق له في الآخرة.
الرَّيحانة الأولى:
الإخلاصُ والصدق مع الله في القول والعمل.
وهذه هي المنزلة التي رفعت الشيخ: أيَّما رِفْعة، فإنَّ هذا العالم الرَّباني له سِرٌّ عجيب بينه وبين ربِّه في عباداته ومعاملاته، ومن هنا لـمَّا ذُكِر للإمام أحمد: الصِّدق والإخلاص، قال: بهذا ارتفع القوم. إي وربي، بهذا حاز شيخنا: قَصَب السَّبْق في الخيرات والطاعات، وخُذْ حادثة جرت بيني وبين شيخي:
كنتُ قد راسلتُ كثيراً من أهل العلم؛ أَنوي إعداد كتاب تحت عنوان: «أبحاثٌ عِلْميَّة مُهدَاةٌ للعلَّامة الشيخ عمر الأشقر» وكنتُ أنوي أنْ أضعه أمامه بعد فراغي منه، أمراً واقعياً لا مـَحِيْدَ عنه، ولم أُخبره به لعلمي أنَّ الشيخ: سيمنع كلَّ هذا لمعرفتي به من حادثاتٍ شتَّى، فإذا به ذات يوم يتَّصل بي ويخبرني برؤيته، فلمَّا جئته؛ خرجنا سوياً في نزهة لطيفة، أنستُ وتعلَّمت وانتفعت فيها، ثم بعد الانقضاء منها، وقبل مغادرته، أهداني درساً أثَّر فيَّ كثيراً، فقال لي: في همس لطيف وحنون - وكان قد وصله الخبر من أحدهم -: الكتاب الذي تُعدُّه أنا غيرُ راضٍ عنه، ولا أقبل به، ورضاي عليك أن تمنع هذا البتَّة، فجهدتُ في إقناعه فلم أفلح، فكان أول أمر يردُّه الشيخ لي، فما كان لي مِن بُدٍّ إلَّا أنْ أُوقف المشروع، وعُدْتُ بإرسال من وصلتني منه مشاركة بإعادتها، والاعتذار له عن إتمام المشروع؛ نزولاً تحت رغبة شيخنا الحبيب أبي سليمان؛ ولعَمْر الله إنَّ فرحته ورضاه خيرٌ عندي من آلاف الكتب.
وانظر إلى نفع الله له في مصنَّفاته، وانتشارها وترجمته إلى لغات شتى تصل إلى خمسة وعشرين لغة، فهذا شَأْنُ الإخلاص، يكتب الله لصاحبه، الفَتْح والتَّوفيق، ثُمَّ يكتب له القَبول وحُسْن التَّلقي، والنَّشر بين العباد في البلاد، فأيُّ فَضيلة أعظمُ مِن الإخلاص؟
«وقد جَرتْ عادة الله التي لا تُبدَّل وسُنَّته التي لا تُحوَّل ؛ أن يُلْبَس المُخلِص من المهابة، والنُّور، والمحبَّة في قلوب الخلق، وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه، ونِيَّته ومعاملته لربِّه، ويُلْبَس المرائي اللَّابس ثوبي الزُّور من المقْتِ، والمهانة، والبُغْضة ما هو اللَّائق به ؛ فالمُخلِص له المهابة والمحبَّة، وللآخر المقت والبغضاء»، فرحمك الله شيخنا، وأنزل على قبرك شآبيب رحمته.
الريحانة الثانية:
التَّربية العلمية الإيمانيَّة:
حَبا الله شيخنا من العلم الواسع، والفقه المتين، والبصيرة الُمنوَّرة بهدي الكتاب والسُّنة الكثير الكثير، فربَّى نفسه على ذلك وروَّضها، وإذا قرأتَ كتابه «معالم الشخصية الإسلامية» أيقنتَ أنَّ هذا الُمؤلِّف عالِـمٌ من الطراز الفريد، وتجده رباني العِلْم والتربية المؤمنة، ومن فضل عليَّ جاء اليوم الذي أَراه، وتكتحل عيني بطلَّته البهية، ويُقدَّر الله أن أكون من تلاميذه، ثُمَّ من المقرَّبين الخواص، فرأيتُ عجباً، وكنتُ أُقيِّد مِن مثل ما رأيت في هذا الجانب الكثير، وحين يلمحني يقول لي لا تفعل، ويوم ألْححتُ عليه في الكتابة عن حياته، وأنِّي أدَّخرها لهذا الشأن، امتنع بشدة، وكان يقول لي: «ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم» فأحاول، فيقول: «الحي لا تُؤمن عليه الفتنة» فأكرِّر الإلحاح، فيذكر قصة الشيطان مع الإمام أحمد: وقوله: «فُتَّنِـي يا أحمد، ويقول: لا بعد» ثم أُثني على إسهاماته الدَّعوية وجهوده العلمية، فيقول ــ أعلى الله منزلته ــ: «لا أعدُّ هذا شيئاً» ! وهكذا كلما طَرقتُ باباً سدَّه وامتنع، حتَّى ألححتُ عليه كثيراً كثيراً، وبعد جُهد جهيد، وقد منع غيري، رَضِيَ - أرضاه الله - بالموافقة أن أُسطِّر عنه، لحظوتي ومكانتي عنده، هذه واحدة، والثانية لرؤيا رأيتها، إلَّا أنَّ شيخنا: اشترط عليَّ نشرها بعد وفاته، وسيكون، فالحمد لله على فضله وتوفيقه.
الريحانة الثالثة:
التَّربية الجهادية:
أمَّا عن الجهاد فأمره عجيب مع هذا العالِـم الرَّباني، فلقد كانت له أيادٍ بيضاء فيه، ولكن دُون أن يُحدِث كبير ضجَّة حوله عن اهتمامه بهذا، وكثيرٌ من الناس يجد لذَّة ونشوة في الحديث عن هذا الجانب وأنَّه من أربابه وأصحابه، وربما لم يُصب به إلَّا بسهم التَّحدُّث به والمفاخرة!! وما هكذا العُظماء؟ أَوَمَا عقلتَ قولةَ الفاروق حين عُدِّد له شهداء المعركة، قالوا: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فقال: «لا يَضرُّهم أنْ يعرفهم عمر، لكنَّ الله يعرفهم»، وكفى، نعم كفى.
هذه خصيصة الرَّبانيين، لا يُشهِدُون على أعمالهم إلَّا ربهم، هو أُنسهُم وشاهدُهم، وخبيرُ أمرهم وأحوالهم، فما أسعدهم، وأَسْعِد بهم!

وهكذا كان شيخنا؛ فأقرب الناس حوله خَفِيت عنهم هذه العنايات، وقد ادَّخر عند ربِّه هذه العبادة الخفية، وعلم الناس عنه في هذا الباب المبارك بعد وفاة الكثير الكثير. غير أنِّي ظفرت بنَزْرٍ يسير منها في حياته بموقفين:
الأول: موقف المجاهدين الأفغان، وكيف كان على صِلَة ودراية واهتمام بواقعهم، وقد ذكر: لي عنهم أموراً عجيبة، ثم ما نصحهم به وذكَّرهم بالله تعالى حين دبَّ الخلاف بينهم، وكان قد أرسل لهم رسائل في ذلك، وقد أطلعني على شيء من ذلك:.
والثاني: يوم استشهاد الشيخ أحمد ياسين؛ أبان لي بعضاً منها، فذهب يذكر شيئاً من وميض الذكريات وما منَّ الله به عليه، وصلته بالشيخ: في هذا الباب، وكم حاول: أنْ يَذهب بالموضوع بعيداً إلَّا وكنتُ أحاول ردَّه إليه لأسمع وأسمع، غير أنه: كان يُخفي كثيراً وكثيراً، ولا عَجب، فهو رجل من رجال الإخلاص الأول في هذا العصر، وصفحات شيخنا: غير المحكيَّة في هذا الباب كثيرة.
الريحانة الرابعة:
حُسْنُ الُخلُق ودماثتُه:
وهذه خَصْلة نادرة ومتميِّزة في الشيخ؛ قد مَلأت حياته كلَّها، أَنْعِم بهذا الشَّيخ: حَسَنُ الأخلاق، زَكيُّ النَّفس، طيِّبُ القلب، سليم الصدر، عفيف اللِّسان، عجيب الصَّمت، ولصمته أسرار وأخبار، لا تجد في قلبه غِلَّاً ولا حقداً أو حسداً لمسلم، وكيف لا يكون كذلك، وقدِ امتثل خبر نبيِّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ خِيارَكم أَحاسنُكُم أخلاقاً» وأحلف بالله غير حانث: أني لا أعلم لشيخنا: عدواً ولا خصماً، وهل أكثرَ مِن أن تَرى في جنازته وقد شيَّعه الآلاف، فخرج المُوافِق والمُخالِف على اختلاف مذاهبهم وتوجُّهاتهم، وخذ هذا الأدب الجم والُخلُق الرَّفيع ممَّا لمسته من شيخي برَّد الله ضجيعه: أعطاني أحد الدكاترة بحثاً له؛ لمراجعته والنظر فيه، وهو سيقدِّمه للترقية، فما أنْ قرأته ونظرتُ فيه إلَّا وتذكَّرتُ أنَّ هذا البحث قد مرَّ عليَّ، وسبق لي مُطالعتُه، فلمَّا انقلبتُ أبحث بين أرْوِقة مكتبتي، فإذا بي أجده، فإذا هو يُوافق البحث الآخر بكامله حتى في الأخطاء! فعجبتُ والله كثيراً، من هذه السرقة العلمية الفاضحة - وما أكثرها اليوم - ووقعتُ في حَيْرة، هل أرجعُه وأسكت؟ أو أخبر عميد الكلية شيخنا الراحل، أو ماذا أفعل؟ فانشرح صدري للذهاب لشيخي؛ وقلت له الأمر دون ذكر اسم هذا الدكتور الخائب! فما كان من الشيخ إلَّا أنْ تألَّـم وقال: اكتُم هذا الأمر، ولا تخبرني عن صاحبه - مع العلم أنه سيُقدَّم عنده للترقية - وأَرْجِعْهُ ولا تكشف له سِتْراً، وذكِّر صاحبه بالله بأسلوب حكيم موفَّق، طالما أنَّ الأمر لم يصل إلينا، فالسِّتر على المسلم خيرٌ كبير، مع عدم إقراري لهذا الفعل الشنيع، فعمِلْتُ بهذه الوصية، وحَفِظَ ذاك ماء وجهه فلم يُقدِّمه.

فانظر إلى هذا الآداب العملية التي تحلَّى بها الشيخ: مع هذه البصيرة المباركة، وهكذا والله كان شيخنا: مدرسة في الأخلاق، فتِّش عن أيِّ خُلُق، تجد هذا الشيخ المهيب قد نال حظاً وافراً منه، فلا تَسَلْ عن لين الجانب، والسَّماحة، والتَّواضع بأنواعه: تواضع الفِكْر والرَّأي، وتواضع المعاملة، وتواضع العيش، إلا أنَّ أميز سِمَةٍ كانت في الشيخ؛ عزَّة المؤمن والعالـم الذي يخشى الله تعالى، ولو ذهبتُ أسوق مواقف لهذه الخصال من هذا السُّمو الأخلاقي الرفيع، والامتثال الضَّليع؛ لطال بي المقام.
الرَّيحانة الخامسة:
اعرف كيف تموت:
فإنَّ من الناس مَن يموت يوم يموت لا يُساوي شيئاً، ولكنَّ القليل من الناس من يموت يوم يموت يُساوي أمةً مِن الأمم، وهكذا كان الشيخ؛ فالعُظماء والنُّبلاء، يُحسنُون صناعة الموت، وكيفيَّة الموت، وإنِ استعرضتَ التاريخ الإسلامي الحافل مِن لَدُن العهد النَّبوي إلى أيامنا هذه، تجد أنَّ أهل الفضل والَمنقَبة في الإسلام لهم مع صناعة الموت حكايات وأسرار، ولئن قَعدتْ بهم أجسادهم، فإنَّ نفوسهم توَّاقةٌ لمدارج المعالي، ولمعارج الرِّفعة والسُّمُو، «والأعمال بالنِّيات» والجوارح شاهدات، ولذا ألْـهَم الله الإمام المُبجَّل أحمد بن حنبل: أن يقول: بيننا وبينكم يوم الجنائز!
وجاءت جنازة الشيخ عمر: واحتشد الآلاف، وأكتظَّ الجامع بالزِّحام، وهرع الدُّعاة وأهل العلم، من الداخل والخارج، لتشيعه حتى غدا أهل البيوت في طريق المقبرة يفتحونها للوضوء، والراحة من كثرة من شيَّع في تلك القرية ذهاباً وإياباً؟
هكذا هو الإحسان في صناعة الموت والتأهب له، فمن رام خاتمةً حسنة طيبة، عمل لها في حياته ابتغاء وجه الله سبحانه، وامتثل بنفسه وقلبه وعقله وجوارحه هِدَايات الكتاب والسُّنة النَّبوية في كلِّ حياته؛ فاستقامت كما أراد الله، وفَقِهَ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وحينها أَبْصِرْ بما يُجريه الله على يديه من ألوان الخيرات والبُشريات، ورفعة الدَّرجات، وأمَّا من قعدت به نفسُه، فكسرته عن معالي الأمور، فقد حرمها الخير كل الخير، وكان أسيراً لدركات الشهوات والشبهات، و«كلُّ الناس يَغْدُو؛ فبَايِعٌ نَفسَه فمُعْتِقُها أو مُوبِقُها»، فاخْتَرْ لنفسك أي صناعة للموت تريد؟
الريحانة السادسة:
الأثر الصالح قبل الرحيل:
العقلاء يُبقون لهم آثاراً تدلُّ على حُسْن حالهم، ومِن أحسن الأثر، العِلْم النَّافع، والعمل الصالح، والولد البار، وقد حازها بفضل الله شيخنا: كلها، فعِلْمُه أشهرُ مِن أنْ يُذكر، وعمله عمل السَّابقين بالخيرات - نحسبه - وأبناؤه من الأبرار الفضلاء البارِّين به، فما أحسن العمل، وما أجمل الأثر، فليتفكَّر المسلم والمسلمة وليتزوَّد كلٌّ من الخيرات، وليترك أثراً صالحاً قبل رحيله، حتَّى يُغدِق الله به عليهم حسنات تترى، وفضائل شتَّى، والمُوفَّق من وفَّقه ربُّه للخير وفي الخير، وخَتَمه على خير، ومن لطائف هذا الأثر، أن يكون للمرء بعد وفاته الذِّكر الحسن بين الناس، ولهذا سأل نبي الله إبراهيم الخليل ؛ربَّه عزَّ وجل فقال: (وَاجْعَلْ لي لِسَانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ)، قال أهل التفسير: هو الذِّكْر الجميل، والثناء الحسن بعد الممات قروناً تِلْو قرون.
يَمُوتُ قَومٌ فيُحْي العِلْمُ ذِكْرهُمُ ** **والجهْلُ يُلْحِقُ أَمْواتاً بأمْــــــــواتِ
الريحانة السابعة:
ختامه مسك مع المسك:
ففي الحديث عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس، إنه لم يَبقَ مِن مُبشِّرات النُّبوة إلَّا الرُّؤيا الصالحة يراها المسلمُ، أو تُرى له).
ولشيخنا: مع الرُّؤى مواقف وعجائب، وخذ ثلاث رؤى عن المسك:
الأولى: رأى أحدهم أنِّي أسير مع شيخنا: في أروقة الجامعة، وأُوزِّع مِسْكاً على الناس أُطيِّبهم، وأعطيهم منه. فكان التعبير: أكتب كتباً تنفع الناس، ولم يكن لي سابق تأليف، وهكذا كان بحمد الله وفضله، فلمَّا ألَّفتُ وحقَّقتُ، كان الشيخ: يُراجع كلَّ ذلك، ويُقدِّم له، ويُقرِّظ، وهذا من فضل الله عليَّ، وكم اليوم أفتقدك شيخنا رحمك الله، إلَّا أنَّ يقيني أنَّ ما عند الله هو خير لك وأبقى من هذه الدنيا، فلمَّا قَصصتُ عليه هذه الرُّؤيا وخبرها، قال:: خُذْ منِّي الثانية، وهي بالمسك:
الثانية: قال الشيخ: رأيتُ أني وقفتُ على أبواب المسجد الأقصى، وكنتُ أُوزِّع على الناس مِسْكاً.فسألتُ شيخنا:: فما أوَّلتها ؟ فقال هذه الكتب النَّافعة، وكانت كُتبي تُوزَّع على أبواب المساجد في الكويت وغيرها.
أما الثالثة: فهي عزيزة عليَّ، فقد رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام، وكنت قد لبستُ عباءة سوداء مذهَّبة، وقال لي: اكتب ترجمة عن عمر الأشقر، ولم يَدُرْ بخلدي أنْ أقوم بهذا الأمر، حتَّى جاءت هذه الرُّؤيا. ففرحتُ بها كثيراً، وتلهَّفت بطلوع الصباح، وقدمت مُسرِعاً لشيخنا، وقصصت من خبري عليه، فصمت كثيراً، وهو يحسن الصمت ويُتقنه أيَّما إتقان، فما نطق بحرف واحدٍ، إلَّا أنَّ الشيخ: بعد أيام! أذن لي بالكتابة عن حياته وما أَبغيه من تدوين كثير من ذلك، فشرح الله صدره لهذا الأمر، وأفاض عليَّ بما لم يُعطِه لأحدٍ، فحدثني وحدَّثني، ووهبني وأعطاني، وخصَّني وميَّزني، فالحمد لله على توفيقه.

المحور الثالث: عاجل بُشرى المؤمن:
والمُبشِّرات لهذا الإمام المبارك: كثيرة، ونحسن الظنَّ بربنا أنها دلائل خير وبشرى، وما هذه البشارات إلا شهادة تُؤدَّى، وستكتب شهادتهم ويسألون، فمِمَّا ورَد في صحاح الأحاديث:
1. رشح عرق الجبين: ويشهد له حديث بُريدة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ المؤمن يموت بعَرق الجبين»
2. المبطون شهيد: ويشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهداء خمسة؛ المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الَهدْم، والشهيد في سبيل الله»
3. الوقاية من عذاب القبر: ويشهد له حديث عبد الله بن يسار يقول: كنت جالساً مع سليمان بن صُرَد وخالد بن عُرْفُطَة فذكروا رجلاً تُوفِّي مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شَهِدا جنازته فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول اللهصلى الله عليه وسلم: «مَن يَقتُلُه بطنُه فلن يُعذَّب في قبره؟» فقال الآخر: بلى.
4. والشهادة بالثناء الحسن للمُتوفَّى: يصدِّقه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: مرُّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيراً، فقال النبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ» ثمَّ مرُّوا بأخرى فأثنوا عليها شرَّاً، فقال: «وجبت» فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيراً؛ فوجبت له الجنَّة، وهذا أثنيتم عليه شرَّاً، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض»
5. شفاعة المصلين لاسيَّما أهلُ التوحيد للمُتوفَّى: ويدل لهذه الشفاعة أحاديث:
- حديث عائشة رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مَيِّت يُصلِّي عليه أمةٌ من المسلمين يبلغون مئة، كلُّهم يشفعون له إلا شُفِّعوا فيه» وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما «أربعون رجلاً، لا يشركون بالله شيئاً إلَّا شَفَعهم الله فيه»
6. الختم على عمل صالح: فعن أنس بن مالك، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا أراد الله بعبدٍ خيراً يستعمله» قيل: كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال: «يُوفِّقه لعمل صالح قبل الموت»
وعن عمرو بن الْـحَمِق الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أراد الله بعبد خيرا عَسَلَهُ قبل موته» قيل: وما عسلُه قبل موته ؟ قال: «يُفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يَرْضى عنه»
فيا لله، هل هنا عملٌ خير من تفسير كتاب الله يُختم عليه المرء، آه يا شيخي فتفسيرك «المعاني الحِسَان» افتقدك، وقد أنهيتَ تفسير ثمانية عشر جزءاً، وكنتَ تَشُوق وتَتوق لإكماله، فهنيئاً لك هذا الختم المبارَك، وإنَّا على دربك سائرون ومُكمِّلون.
هذه ومضة سريعة عن هذا الإمام المبارك، والعالم الرَّباني، وهي بعضٌ من بعضٍ ممَّا تميَّز به، فهكذا كان، وهكذا فلنكن، فهذا العالِـمُ الذي لو كتبتُ فيه مِن الصَّفحات عشرات، ومِئات لا أُوْفِيه حَقَّه، ولا بعض حَقِّه، وحَسْبي أنْ أكُون في هذه الشجون والعِبَر ممَّن يُحيي مَجداً، ويَرسُم قدوةً، ويُهيِّئ دَرْباً للمَعالي، راجياً أنْ يكون بما قيَّدتُ نِبرَاساً للاهتداء، وعَلَماً للاقتداء.
فاللَّهُمَّ اغفر لشيخنا ووالدنا ومُعلِّمنا ومُربِّينا ذنبه، واستُر عيبه، وضَعْ عنه وِزْره، وأرفع له ذِكْره، واجعل له لسان صِدْقٍ في الآخرين، واجمعنا به مع النَّبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً، وأختم بوصية شيخنا؛ التي دوَّنها في مطلع كتابه «الصفحات»:
«أوصي أولادي وذريتي، ومن انتفع بكتبي، ومن يريد الإحسان إليَّ أن يستغفروا لي كثيراً، فأنا عبد الله الخطَّاء، وأسأل الله رحمته وعفوه وإحسانه، وأن يتمَّ عليَّ ستره وعافيته، ومغفرته في الدنيا والآخرة»