الثلاثاء، 31 يوليو 2012

الله قرن عبادته ببر الوالدين وحرم على العاق دخول الجنة


أحمد شعبان
أوصى الله تعالى ونبيه الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - ببر الوالدين وحسن معاملتهما والدعاء لهما وقرن الله تعالى عبادته ببرهما.
ويقول الدكتور محمد الدسوقي - أستاذ الفقه بكلية دار العلوم جامعة القاهرة - اهتم الإسلام ببر الوالدين والدعاء لهما في أكثر من آية في القرآن الكريم قال تعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)، استغفر نبي الله إبراهيم - عليه السلام - لوالديه قبل أن يثبت عنده أنهما عدوان لله وقيل استغفر لهما طمعاً في إيمانهما وقيل استغفر لهما بشرط أن يسلما وقد روي أن العبد إذا قال: اللهم اغفر لي ولوالدي وكان أبواه قد ماتا كافرين انصرفت المغفرة إلى آدم وحواء لأنهما والدا الخلق أجمع وقيل إنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق.
وقال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرً) “سورة الإسراء” قرن الله تعالى عبادته ببر الوالدين وأمر بالوالدين إحساناً وأوصى الله تعالى الإنسان أن يعاملهما معاملة حسنة ولا يسمعهما قولاً سيئاً ولا حتى التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ ولا ينهرهما ولا يصدر ضدهما فعلا قبيحا، بل أمرنا الله تعالى بأن نقول لهما قولاً حسناً وفعلاً حسناً وأن نقول لهما قولاً كريماً ليناً طيباً بتأدب وتوقير وتعظيم وأن نتواضع لهما ونخفض لهما جناح الذل وندعو الله أن يرحمهما في كبرهما وعند وفاتهما.

وقال الله تعالى عن بر الوالدين والعطف عليهما:
(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا)، ، وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)، يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر وأخذ ميثاقهم على ذلك وأنهم تولوا عن ذلك كله وأعرضوا قصداً وعمداً وهم يعرفونه ويذكرونه فأمرهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم وهو أعلى الحقوق وأعظمها حق الله تعالى أن يعبد وحده لا شريك له ثم بعده حق المخلوقين وأولاهم حق الوالدين ولهذا يقرن الله تعالى بين حقه وحق الوالدين كما قال تعالى:
(... أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).
بر الوالدين
وجاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما صعد المنبر قال: “آمين آمين آمين فقالوا يا رسول الله علام أمنت قال أتاني جبريل فقال يا محمد رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك فقل آمين فقلت: آمين ثم قال رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له قل آمين فقلت: آمين ثم قال رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل آمين فقلت: آمين”. وعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال بينما أنا جالس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل من الأنصار فقال يا رسول الله هل بقي علي من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به؟ قال: نعم خصال أربع الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما فهو الذي بقي عليك بعد موتهما من برهما “وجاء جاهمة السلمي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك فقال فهل لك من أم؟ قال نعم فقال: الزمها فإن الجنة عند رجليها” قالها ثلاث مرات وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: “إن الله يوصيكم بآبائكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب”.
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم - قال: “قلت يا رسول الله من أبر؟ قال أمك قلت ثم من؟ قال: أمك قلت ثم من؟ قال: أمك قلت: ثم من؟ قال: أباك ثم الأقرب فالأقرب” يفهم من هذا الحديث تقديم الأم على الأب في البر وحض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بر الأم ثلاثاً وعلى بر الأب مرة لعناء الأم وشفقتها لما تقاسيه من حمل وطلق وولادة ورضاعة وسهر ليالي وقد رأى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - رجلاً يحمل أمه على ظهره وهو يطوف بها حول الكعبة فقال: يا ابن عمر أتراني وفيتها حقها قال: ولا بطلقة واحدة من طلقاتها، ولكن قد أحسنت والله يثيبك على القليل كثيراً. وقال بعض العلماء بوجوب الاستغفار للأبوين في العمر مرة وليس شرطاً أن يكون هذا الاستغفار بعد وفاتهما فالإنسان إذا استغفر لوالديه بعد موتهما ينتفع والداه بهذا الاستغفار حتى إنهما يلحقهما ثواب كبير فيفرحان بهذا الثواب فيقول لهما الملك هذا من استغفار ولدكما لكما.
ثلاثة لا يدخلون الجنة
حذر الله تعالى ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من عقوق الوالدين لأنه قد يكون سبباً في شقاء الإنسان العاق في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: “ثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث ورجلة النساء” أي لا يدخل هؤلاء الثلاثة الجنة مع الأولين إن لم يتوبوا. ويجب الدعاء للوالدين بما ورد في كتاب الله والثابت من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مثل: رب اغفر لي ولوالدي رب ارحمهما كما ربياني صغيرا. رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين. ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.

«يوسف» علمه الله تأويل الأحاديث وتولى خزائن الأرض


أحمد محمد
كان لنبي الله يعقوب اثنا عشر ولداً ذكراً، وإليهم ينسب أسباط بني إسرائيل كلهم، وكان أشرفهم وأعظمهم يوسف عليه السلام، وعن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم”، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن في أبناء يعقوب نبي غيره، وباقي إخوة يوسف لم يوح إليهم، إنه وإخوته من أربع زوجات ليعقوب هن ليئة وراحيل وزلفا وبلهة، ويوسف وبنيامين من راحيل.
وقصة نبي الله يوسف عليه السلام هي الوحيدة التي تكاملت في سورة واحدة في القرآن الكريم، وورد ذكره أيضاً في سورتي الأنعام وغافر.
رأى يوسف وهو صغير في المنام أحد عشر كوكبا والشمس والقمر قد سجدوا له، فلما استيقظ قصها على أبيه، فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية، ورفعة عظيمة، فأمره بكتمانها وأن لا يقصها على إخوته كي لا يحسدوه، ويكيدوا له.
توجه الأبناء لأبيهم يطلبون منه السماح ليوسف بمرافقتهم، قال يعقوب “إني ليحزنني أَن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون”، ووافق الأب تحت ضغطهم، خرجوا ومعهم يوسف، اختاروا بئراً وألقوه فيها، وأوحى الله إليه أنه ناج فلا يخاف، وأنه سيلقاهم وينبئهم بما فعلوه.
عند العشاء جاء الأبناء باكين أخبروا أباهم، بأنهم ذهبوا يستبقون، فجاء ذئب وأكل يوسف، وجاؤوا على قميصه بدم كذب لطخوه به بغير إتقان ونسوا أن يمزقوا القميص، وأدرك يعقوب أن يوسف لم يأكله الذئب، وأنهم دبروا له مكيدة.
القافلة
مرّت قافلة توقفت للتزود بالماء، وأرسلوا أحدهم فأدلى الدلو، تعلق يوسف به، ففرح الرجل بما رأى، ثم زهد فيه لأنه صبي صغير، باعه في سوق الرقيق بثمن زهيد، دراهم معدودة، واشتراه رجل من الطبقة الحاكمة في مصر، وزير من وزراء الملك، سماه القرآن “العزيز”، وهكذا مكن الله ليوسف في الأرض، وعلمه من تأويل الأحاديث والرؤى.
كان يوسف أجمل رجل في عصره، وورد في الحديث الشريف انه أوتي نصف الحسن، وكان نقاء أعماقه وصفاء سريرته يضفيان عليه مزيداً من الحسن، “وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأَبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أَحسن مثواي إنه لا يفلح الظَّالمون”، ويرفض النبي الكريم ارتكاب الفحشاء.
ادخلوه السجن فانتهز الفرصة، ليدعو إلى الله، مما جعل السجناء يتوسمون فيه الصلاح وراح يحدثهم عن رحمة الخالق وعظمته، جاءه سجينان يسألانه تفسير أحلامهما، بين لهما أن أحدهما سيصلب، والآخر سينجو، وسيعمل في القصر، وأوصاه بأن يذكر حاله عند الملك، لكن الرجل نسي، فلبث في السجن بضع سنين.
رؤية
رأى الملك رؤيا، “وقال الملك إني أَرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون”، لكن المستشارين والكهنة لم يستطيعوا تفسيرها، ووصل الخبر إلى الساقي الذي نجا من السجن، وتذكر يوسف وأسرع إلى الملك وحدثه عنه فأرسله إلى السجن ليسأل يوسف، الذي قدم التفسير ومعه النصح وطريقة مواجهة المصاعب ويطلبه الملك، قال يوسف: “اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم”، وهكذا مكن الله له، وصار مسؤولاً عن خزائن مصر واقتصادها، وكبيراً للوزراء.
دار الزمن، وجاءت سنوات المجاعة وجاء إخوته، من البدو من أرض كنعان يبحثون عن الطعام، فدخلوا على عزيز مصر، وهم لا يعلمون أنه أخوهم، لكنه عرفهم، فلما دخلوا آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين، ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو.
وتحدث القرآن عن حاكم مصر في عصر يوسف بوصفه “الملك”، وتشير البحوث إلى أنه كان من الهكسوس ولا يخلو من فراسة، ويتجلى ذلك في اختياره ليوسف ليتولى” خزائن الأرض.
واحة الأمن
وتحولت مصر إلى واحة للأمن والأمان، ويوسف يدعوهم إلى التوحيد، ولم يستخدم سلطته في إكراههم على ترك معبوداتهم، فظلوا على ولائهم لها، مع إيمانهم برسالته وإقرارهم بعدله وفضله، ويدل على ذلك قول مؤمن آل فرعون بعدها بعدة قرون في عصر موسى حين كان يعظ قومه المصريين “ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا”.
تمتع المصريون في عهد يوسف بالعدل الاقتصادي وحرية المعتقد، ويشير التاريخ إلى أن بني إسرائيل كانوا في تمكين وعز أول الأمر، يوم أن جاءوا من الشام إلى مصر، وقد كانت كل البلاد من حولها تعاني مجاعة عظيمة، فجاء الجميع إليها ليأخذوا من قمحها وأرزها وطحينها، وممن جاءوا إخوته يشكون الجوع والقحط في أرض الشام.

النويري عالم موسوعي في العلوم الشرعية واللغوية


عمرو أبوالفضل
العلامة شهاب الدين النويري أحد أعلام الحضارة الإسلامية، كان عالماً موسوعياً في جميع العلوم اللغوية والشرعية والعقلية، ومؤرخاً شهد له معاصروه بالسبق والتقدم في التاريخ والأدب.
ويقول الدكتور محمد عثمان الخشت - أستاذ المذاهب ومقارنة الأديان بجامعة القاهرة - ولد شهاب الدين أحمد بن عبدالوهاب بن محمد النويري نسبة إلى قرية نويرة بمحافظة بني سويف بمصر في سنة 660 هـ، وقيل في سنة 667 هـ، وجاء نسبه مختلفاً في بعض المصادر، فذكر أنه أحمد بن عبدالوهاب بن عبدالكريم بن عبدالدائم، وذكر الزركلي أنه ولد بقوص بصعيد مصر، وكان أبوه كاتباً مشهوراً يعمل في دواوين الدولة، وتعهده بالرعاية والتعليم في صباه بحفظ القرآن الكريم وتعلم علوم اللغة العربية والفقه، وعني بتعليمه، ودربه على كتابة الإنشاء الديواني حتى أتقن عمل الدواوين وعرف قوانينها وما يحتاج إليه للانخراط فيها، ووجد في نفسه ميلا لدراسة الحديث والأخبار والأدب، وعكف على دراسة التاريخ والسير على مشاهير علماء مصر وشيوخ الأزهر، واشتغل في مقتبل عمره بنسخ الكتب الجليلة نظراً لجمال خطه، وكان يكتب النسخة من صحيح البخاري ويبيعها بألف دينار، وذاع صيته لكثرة علمه وفضله وسعة معرفته بعلوم العربية والتاريخ والحديث، واتصل بالسلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون، ونال حظوته في فترة خلافته الثانية والثالثة، وانتدبه في ديوان الإنشاء، وتولى نظر الديوان بالدقهلية والمرتاحية، وأسند إليه الحسبة والمقايسات، ولما ظهرت براعته وحسن إدارته في عمله باشر جيش طرابلس لفترة مما كان له كبير الأثر في توسيع مداركه ومعارفه. وقال عنه الأدفوي صاحب “الطالع السعيد” إنه كان ذكي الفطرة، حسن الشكل، وفيه مكرمة وأريحية وود لأصحابه، وله نظم يسير ونثر جيد.
مواصلة الدراسة

وتطلع النويري إلى مواصلة الدراسة والمطالعة والتصنيف بعد أن ضاق ذرعاً من وشايات المنافسين وتقلب الحكام وتعرضه للأذى ومصادرة أمواله وأملاكه أكثر من مرة، فزهد في تقلد المناصب والرياسات الإدارية والمالية، وآتته فكرة تأليف كتاب ضخم ائتناساً به، ثم أفاد منه غيره، وعكف على المراجع والمخطوطات، وراح يضع المسودات ويدون المعلومات، واستمر في الكتابة حتى انتهى من الجزء الأول منها في ذي القعدة 721 هـ، وقال في فاتحة الكتاب: “كنت ممن عدل في مباديه، عن الإلمام بناديه، وجعل صناعة الكتابة فنه الذي يستظل بوارفه، وفنه الذي جمع له فيه بين تليده وطارفه، فعرفت جليلها وكشفت خفيها وبسطت الخرائد ونظمت منها الارتفاع وكنت فيها كموقد نار على يفاع، واسترفعت القوانين ووضعت الموازين وعاينت المقترحات واعتمدت على المقايسات وفذلكت على الأصل وما أضيف إليه، وحررت ما بعد الفذلكة فكان العمل على ما استقرت الجملة عليه.
ويعد كتاب “نهاية الأرب في فنون الأدب” الذي استغرق في تدوينه عشرين عاماً، موسوعة ضخمة تجمع بين الأدب والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والاجتماع، والعلوم الدينية، ونظم الحكم، والتراجم والفنون والعلوم التي لم يجمعها من قبل ولا من بعد كتاب في مجاله، وذكره أصحاب كتب التاريخ والتراجم باسم تاريخ النويري، وتميز أسلوبه بالبساطة والوضوح والبعد عن التعقيد، والإغراق في التخصص العلمي والمصطلحات التي لا يعرفها إلا أهل العلم.
تاريخ الإنسانية
وتشمل هذه الموسوعة واحدا وثلاثين مجلداً ضخماً، كل مجلد يشغل جزئين وقد قسم الموسوعة إلى خمسة فنون، خصص الفنون الأربعة الأولى لدراسة السماء والأرض والإنسان والحيوان والنبات، وخصص الفن الخامس للتاريخ وفيه برزت براعة النويري التاريخية وقدرته على الرصد والتحليل والتأريخ، والمطلع يجد أن التاريخ هو قوام هذه الموسوعة، فالمادة التاريخية هي لب الكتاب وعموده، وتشغل واحداً وعشرين مجلداً، سرد فيه تاريخ الإنسانية بدءاً من أبي البشر أدم مرورا بالأنبياء حتى سيد الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - ومراحل التاريخ الإسلامي المتعددة، ويشغل تاريخ مصر أربعة مجلدات من تاريخ الدولة الفاطمية فالأيوبية ثم تاريخ الشام والصليبيين، ثم تاريخ الدولة المملوكية حتى وفاته، كما بذل عنايته بتدوين كل ما يتعلق بتاريخ الدواوين في الدولة الإسلامية، وساهمت جهوده في صنعة الديوان في الارتقاء بهذا العلم، ولذلك اعتمد على كتاباته من جاء بعده مثل ابن فضل الله العمري في كتابه الجامع “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”، والقلقشندي في كتابه الموسوعي “صبح الأعشى في صناعة الإنشا”.
واعتنى المستشرقون بهذا السفر وحرصوا على ترجمته للغات الأوروبية، ويقول فازيليف: “إن نهاية الأرب على الرغم من تأخر عصره يحوي أخباراً خطيرة عن صقلية نقلها عن مؤرخين قدماء لم تصل إلينا كتبهم مثل ابن الرقيق وابن رشيق وابن شداد وغيرهم”، وله أيضاً شعر يسير ونثر كثير، منه نثر أدبي يحتوي على كتب ديوانية ورسائل أدبية مختلفة، وتوفي - رحمه الله - في سنة 733 هـ، بالقاهرة.

الصوم يبعث في النفوس قوة العزيمة




قال - صلى الله عليه وسلم-: “يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار”، وهو الشهر الذي تُفَتَّح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب النار، وتُقيد الشياطين، وتُجاب فيه الدعوات، وتُرفع فيه الدرجات، وتُغفر فيه السيئات، ويباهي الله بكم ملائكته، كما جاء في الحديث الشريف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: “أتاكم رمضان شهر بركة فيه خير يُغشيكم الله فيه، فتنزل الرحمة، وتُحط الخطايا، ويُستجاب فيه الدعاء، فينظر الله إلى تنافسكم، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حُرِم فيه رحمة الله عز وجل.
مزايا
لقد أكرم الله سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية في هذا الشهر المبارك، فها هو رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يعدد مآثر هذه الأمة في هذا الشهر المبارك، ويذكر عدداً من المزايا التي حفل بها هذا الشهر العظيم، فقد ورد في الحديث أنه قد أُعطيت لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خمس خصال في شهر رمضان لم تُعْطَ لغيرهم، حيث يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: “أُعطيت أمتي في شهر رمضان خمساً لم يعطهن نبي قبلي، أما واحدة، فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان المبارك نظر الله عز وجل إليهم ومن نظر إليه لم يعذبه أبداً، وأما الثانية، فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك، وأما الثالثة، فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة، وأما الرابعة، فإن الله عز وجل يأمر جنته، فيقول لها استعدي وتزيني لعبادي أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي، وأما الخامسة، فإنه إذا كان آخر ليلة غفر الله لهم جميعاً، فقال رجل من القوم: أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ألم ترَ إلى العمال يعملون، فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم”.
إن الصوم يبعث في النفوس قوة العزيمة ويحملها على التخلق بخلق الصبر الذي هو للمؤمنين خير زاد، وللنصر أقوى عماد، وفيه يشعر الصائم بوجوب التعاطف والتراحم بين المؤمنين وبقوة الترابط والوحدة بين المسلمين، إذ هم جميعاً يُمْسكون عن الطعام والشراب في وقت واحد ويتناولون فطورهم في وقت واحد ويعبدون إلهاً واحداً ويتجهون إلى قبلة واحدة يمجدون فيها الواحد الغفار.
بركة السحور
عند دراستنا لسيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - نجد أن من هديه - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، أنه كان يتسحر ويمدح السحور لقوله - صلى الله عليه وسلم - “تسحروا فإن في السحور بركة”، (أخرجه ابن ماجه).
وسبب البركة أنه يقوي الصائم وينشطه ويهون عليه الصيام، ويتحقق بكثير الطعام وقليله ولو بجرعة ماء لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم-: “السحور أكله بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين”، (أخرجه أحمد)، وبركة السحور المراد بها البركة الشرعية والبركة البدنية، أما البركة الشرعية: فمنها امتثال أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله، كما ورد في الحديث السابق، وأما البركة البدنية فمنها تغذية البدن وتقويته على الصوم، وسبب البركة أن السحور يقوي الصائم وينشطه ويهون عليه الصيام، ويتحقق بكثير الطعام وقليله ولو بجرعة ماء، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: “السحور أكله بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء”.
الدعاء عند الفطر
الدعاء مخ العبادة، ومن المعلوم أن الله عز وجل جعل آية الدعاء بين آيات الصيام لأن الدعاء في أيام الصيام أقرب إلى الاستجابة، فقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: “إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد”، (أخرجه ابن ماجه)، وكان عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - يقول إذا أفطر: “اللهم إني أسألك برحمتك، التي وسعت كل شيء، أن تغفر لي”، (أخرجه ابن ماجه)، وثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: “اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا، فتقبل منا إنك أنت السميع العليم”، (أخرجه الدارقطني)، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يقول أيضاً: “ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله”، (أخرجه الدارقطني)، لذلك يجب على الصائم أن يتوجه إلى الله بالدعاء، لأن من الثلاثة الذين لا ترد دعوتهم .. الصائم حتى يفطر.
من المعلوم أن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر من الصلاة والتهجد في شهر رمضان المبارك، حيث كان - صلى الله عليه وسلم - يقوم ليله، فمن المعلوم أن صلاة التراويح شرعت في شهر رمضان المبارك، وهي من أفضل العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى خالقه في هذا الشهر المبارك.
وقد رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الصلاة وفيما يشبهها من صلاة الليل، في أحاديث كثيرة، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، أي من غير أن يأمرهم أمراً مؤكداً، كما يأمر بأداء الفرائض، فيقول من: “قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”.
العمرة في رمضان
لقد رغَّب الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالاعتمار في شهر رمضان، حيث بيّن عليه الصلاة والسلام بأن عمرة في رمضان تعدل حجة معه، فقد ورد أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال: “… فإن عمرة في رمضان تقضي حجة معي”.
هذا هو هديه - عليه الصلاة والسلام - في هذا الشهر المبارك، وهو دعوة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بضرورة السير على هديه - عليه الصلاة والسلام - فلا زال حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتردد على مسامعنا: “تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي”.
د. يوسف جمعة سلامة

«الودود».. المحب لرسله وأوليائه المتودد إليهم بالمغفرة




أحمد محمد
“الودود” أحد أسماء الله الحسنى، محبب إلى القلوب، يستشعر العبد معه الإحساس بالحب والعطف والحنان والقرب من الله عز وجل، فالله هو الودود ذو إحسان كبير على مخلوقاته، بإنعامه عليهم وإكرامه للإنسان واستخلافه.
واسم الله الودود يدل على ذات الله وعلى صفة المحبة والود، ويدل على الحياة والقيومية، والرحمة والمعية، والعطاء والمحبة، واللطف والرأفة، وغير ذلك من أوصاف الكمال.
“الودود” سبحانه هو المحب لرسله وأوليائه المتودد إليهم بالمغفرة والرحمة، فيرضى عنهم ويتقبل أعمالهم ويوددهم إلى خلقه بأن يحبهم ويحببهم إلى عباده، كما قال تعالى: “إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً” “مريم:96”، فالود الخاص لعباده المؤمنين، وهذه الآية تجعل العبد يذوب شوقاً للودود سبحانه وتعالى، وكلمة سيجعل هنا بمعنى ممتد في الدنيا والآخرة.
اسم الله الودود ورد دالاً على كمال الوصفية، وجاء في القرآن الكريم مرتين قال تعالى: “واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود”، “هود:90”، وقوله تعالى: “إنه هو يبدئ ويعيد، وهو الغفور الودود”، “البروج 13و14”.والمودة من أبواب المحبة التي تتضمن التمني مع اتخاذ الأسباب الموصلة إلى المحبوب، كما ورد في قوله تعالى: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” “الروم:21” وقوله: “عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم” “الممتحنة:7”.
كثرة الإحسان
وعند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض”.
وقال ابن عباس رضي الله عنه، الودود هو الحبيب المجيد الكريم. والله عز وجل ودود يؤيد رسله وعباده الصالحين بمعيته الخاصة، فلا يخيب رجاءهم ولا يرد دعاءهم وهو عند حسن ظنهم به، وهو الودود لعامة خلقه بواسع كرمه وسابغ نعمه، يرزقهم ويؤخر العقاب عنهم لعلهم يرجعون إليه.
يقول أهل العلم إن من معاني اسم الله الودود أيضاً، المحب لأهل الإيمان والعمل الصالح وأهل طاعته، المحبوب من عباده لكثرة إحسانه، وقضية حب الله ورسوله هي قضية الدين كما قال تعالى “والذين آمنوا أشد حباً لله”، والود هو خالص المحبة فهو جل وعلا ودود، ومعناه أنه محبوب وأنه محب، فهو يشمل الوجهين.
ويقول الغزالي، الودود هو الذي يحب الخير للجميع فيحسن إليهم ويثني عليهم، وهو قريب من معنى الرحيم.
ويقول القشيري، فأما معنى المحبة في صفة الحق سبحانه وتعالى لعباده فتكون بمعنى رحمته وإنعامه عليهم، فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الودود على الإطلاق المحب لخلقه المحسن إليهم، ثم يجب على الإنسان أن يتودد لربه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
ويقول ابن القيم، أما الود فهو خالص الحب وألطفه وأرقه وهو من الحب بمنزلة الرقة من الرحمة، والودود هو الذي يحب أنبياءه ورسله وأولياءه وعباده المؤمنين، وهو المحبوب الذي يستحق أن يحب الحب كله، وأن يكون أحب إلى العبد من سمعه وبصره وجميع محبوباته.
محبة الله
قال العلماء في بيان معنى هذا الاسم، إنه المتودد إلى خلقه بنعوته الجميلة وآلائه الواسعة وألطافه ونعمه الخفية والجلية، فالفضل كله راجع إليه فهو الذي وضع كل سبب يتوددهم به ويجلب ويجذب قلوبهم إلى وده، تودد إليهم بذكر مالهم من الصفات الجميلة الجذابة للقلوب السليمة والأفئدة المستقيمة.
فالله يتودد إلينا ويحبنا ويحنو ويعطف علينا وسمى نفسه الودود من أجلنا، فيجب أن نشعر بالخجل والحياء والحب الشديد لله عندما نسمع اسمه الودود.
فكما أن الله ليس له مثيل في ذاته وصفاته فمحبته في قلوب أوليائه ليس لها مثيل ولا نظير في أسبابها وغايتها ولا في قدرها ولا آثارها، وإذا عرف العبد أن ربه سبحانه وتعالى يحب أولياءه ويحب من أطاعه من المؤمنين ولا يحب الظالمين الكافرين فمن هنا يجب عليه أن يطيع أمره ويتجنب ما نهاه عنه، قال تعالى: “قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم”.
محبة الله عز وجل للمؤمن تعني حفظه، وتأييده، ونصره وإكرامه، وإنزال الرحمة على قلبه، والسكينة، وإغناءه بكل ما يحتاج، والإنسان إذا أحب الله مال إليه، وخلد إلى ظله وإلى أنواره وتجلياته وسكينته، وإلى الشعور بأن الله يحميه ويحفظه، أما الود فهو ما يتجسد به الحب.
الودود يتودد إلى عباده بالنعم، فإذا صحت الرؤية واستيقظ القلب وتفتحت البصيرة، رأيت أن كل هذا الكون ما هو إلا تودد من الله إلى هذا الإنسان، وأوجدنا بالخلق، وأعد لنا جنة عرضها السماوات والأرض، ونحن نتودد إليه بالإيمان به، وبعبادته وطاعته، وامتثال أمره، وبترك ما نهى عنه، وبالتخلق بأخلاق نبيه وبالبذل والعطاء، وكل أعمال الإنسان الصالحة هي في حقيقتها تودد إلى هذا الخالق العظيم.

والأرض بعد ذلك دحاها


د. محمد مطر الكعبي
ذكر الله تعالى الأرض في كتابه العزيز، وغالباً ما تقترن معها السماء، وبين السماء والأرض يتقلب هذا الإنسان، وهو بالأرض ألصق، وقد بين القرآن الكريم أن السماوات والأرض كانتا كتلة واحدة، قال تعالى: (أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا)، وبعد هذا الفتق والفصل بين السماء والأرض جعل الحق سبحانه وتعالى هذه الأرض صالحة لحياة الإنسان، فوضع فيها قانونها الذي يجمعها بالسماء، قال عز وجل: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْع، وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ)، فالسماء ترجع بالماء على الأرض، والأرض تتصدع بالنبات، وهذا نظام الكون، ووضع فيها ما يجعلها قائمة مستقرة مستمرة لهذا الإنسان في المنظومة الكونية، قال سبحانه: (وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ)، وكم في الأرض والسماء من آيات ودلالات جاء القرآن الكريم لينبه إليها وللاستفادة منها، وقد خلق الله تعالى هذه المنظومة الكونية، وخص الأرض والسماء بتفصيل ما خلق في كل واحدة، قال عز وجل: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)، وقال تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ)، وهنا جاء وقت دحيها وتكويرها، قال سبحانه (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) أي جعلها كروية، وقال تعالى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ).
لقد أكد القرآن الكريم على أن جميع نظم هذا الكون والأرض خاصة قد هيئت ليعيش فيها الإنسان ويستثمرها ويعمرها ويبنيها، قال سبحانه: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى،كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى)، وقال عز وجل: (وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ) وقال تعالى: (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ، فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ، وَالْحَبُّ ذُو العَصْفِ وَالرَّيْحَانُ)، وكل هذه المذكورات هي قوام حياة الإنسان ووجوده وفيها من الدلالات ما فيها، والحق سبحانه وتعالى يريد من عباده أن يتأملوا هذه الدورة الكونية فيعرفوا الروابط والعلاقات بينها، وفي طيات ذلك أسرار هذا النظام الكوني الذي يستطيع الإنسان أن يسخره ويستفيد منه إلى أبعد مدى، وهذا الذي كان ولا زال مستمراً، قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً)، والسبل هي الطرق التي يسلكها السالكون فيحققون المنافع والتواصل، ومنها الظاهر المكشوف، ومنها الذي يكشفه الإنسان أو يصنعه، قال سبحانه: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً، وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) كل هذا التيسير والتسخير الأرضي للإنسان ليكون فيها مصلحاً يبنيها، قال عز وجل: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)، فالغاية عمرانها وهي إرادة الله، وكل ما خالف هذه الإرادة لا يقبله ولا يرضاه سبحانه، أليس حرياً للبشرية اليوم أن تحافظ على وجودها بالمحافظة على هذه الأرض ونظامها وأن يتعايشوا على سطحها؟
د. محمد مطر الكعبي

فتاوى ... يجيب عنها المركز الرسمي للإفتاء في الدولة


في الصيام
◆ إذا نويت صيام نافلة مثل ست أيام من شوال، وكذا زوجتي، ثم في منتصف النهار أفطرت وأجبرت زوجتي على الإفطار، فهل أكون آثماً؟ وماذا يجب علي؟
◆ ◆ من صام نفلاً وجب عليه إتمامه، ومن قطع صيام النفل كصوم الستة من شوال فأفطر عامداً عالماً أنه لا يجوز له الفطر، فهو آثم، وعليه قضاء اليوم الذي أفطر فيه فقط حتى ولو أفطر بالجماع.
وأما الزوجة، فإن كانت مكرهة على الفطر، فلا إثم عليها ولا قضاء، وإن كانت مطاوعة فعليها القضاء فقط.
◆ صحوت من النوم وشربت ماء ونويت أن أصوم، ثم رأيت الساعة فعلمت أنه قد أذن الفجر، فهل أكمل صيامي أم لا؟ علماً بأنه عليَّ قضاء من رمضان؟
◆ ◆ لا يصح الصوم سواء كان فرضاً أو نفلاً إلا بتبييت النية من الليل لعموم حديث حَفْصَةَ أُمِّ اَلْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ اَلصِّيَامَ قَبْلَ اَلْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ”، رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وللدارقطني: “لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنَ اَللَّيْلِ”. وبناء عليه فما دمت قد شربت بعد طلوع الفجر فلا يصح صيامك، ولا يلزمك الإمساك بل تفطر.
◆ في رمضان أفطرت 8 أيام وقضيت منها 3 أيام في نفس السنة، فما الحكم في الأيام المتبقية التي لم أقضها بعد؟
◆ ◆ من أفطر أياماً من رمضان وجب عليه قضاؤها قبل رمضان الموالي، فإذا تأخر في القضاء تفريطاً حتى دخل رمضان الموالي، وذلك بأن تمكن من قضاء الأيام الخمسة في آخر شعبان ولم يقضها حتى دخل عليه رمضان، فيلزمه أن يقضيها متى ما قدر على قضائها، وعليه أن يكفر عن التفريط الذي حصل بإطعام مسكين مدا مقابل كل يوم فرط فيه، فإذا كان مجموع ما فرط فيه خمسة أيام أطعم خمسة مساكين بخمسة أمداد لكل واحد مد، والمد يساوي خمسمائة وعشرة جرامات (500.10) من قوت أهل البلد كالأرز، وإذا كان التأخير في القضاء لغير تفريط بأن كان لحيض أو مرض أو سفر أو جهل بوجوبه فلا كفارة.
◆ قضيت يوم صيام من رمضان السنة الماضية، وأريد أن أعرف كيف أخرج الكفارة، وكافة التفاصيل؟
◆ ◆ من فرّط في قضاء يوم من رمضان حتى دخل رمضان الموالي يجب عليه قضاؤه مع إطعام مسكين واحد بمدٍّ، قال العلامة النفراوي في الفواكه الدواني: “من فرَّط في قضاء رمضان إلى أن دخل عليه رمضان آخر فإنه يجب عليه التكفير بإخراج مدٍّ عن كل يوم يقضيه يدفعه لمسكين واحد”. والمد يساوي خمسمائة وعشرة جرامات (500.10) من قوت أهل البلد كالأرز، أمَّا إن كان تأخير قضاء ذلك اليوم لعذر شرعي كحيض أو مرض مثلاً، فلا إطعام عليك في ذلك.
صوم المسافر
◆ هل يجوز لي وأنا من سكان العين وأداوم في أبوظبي أن أفطر وأدفع كفارة؟ علماً بأنني أذهب كل يوم إلى أبوظبي وأعود يومياً على مدار العام.
◆ ◆ إن كان الفجر يطلع عليك وأنت في مدينة العين، ثم تسافر إلى أبوظبي فلا يجوز لك الفطر - ولو كنت تسافر يومياً - لأن من شروط جواز الفطر للمسافر أن يخرج من مدينته قبل طلوع الفجر، جاء في التاج والإكليل للعلامة المواق: “قال مالك: من أصبح في حضره صائماً في رمضان وهو يريد سفراً، فلا يفطر ذلك اليوم قبل خروجه ولا بعد خروجه”.
وإن أردت أن تترخص بالفطر في السفر، فعليك أن تخرج من مدينة العين قبل طلوع الفجر، قال الشيخ خليل رحمه الله في المختصر: “وَفِطْرٌ بسفر قَصْرٍ شرع فيه قبل الفجر” والمعنى أنه يجوز لمن خرج من مدينته قبل الفجر مسافراً سفر قصر أن لا ينوي الصوم ويأخذ برخصة الفطر في السفر.
وبناء عليه، فإن كنت لا تسافر من العين إلى أبوظبي إلا بعد طلوع الفجر فلا يجوز لك الفطر - ولو كنت تسافر يومياً - أما إن كنت تسافر قبل الفجر فلك أن تأخذ برخصة الفطر والأفضل لك الصوم، إذا لم يشق عليك لقول الله تعالى: (وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).
علماً بأن من أفطر في السفر لا بد له من القضاء ولا يجزئه دفع المال عن القضاء لقوله تعالى: (فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر).
صيام الحامل
◆ أود أن أسأل بخصوص صيام زوجتي، حيث أنها حامل في شهرها الثاني وتعاني من آلام قوية في بطنها (من القولون)، وهو مرض مزمن بها، ولكنه اشتد عليها جدا خلال حملها ولقد نصحها الأطباء بأكل الوجبات الخفيفة خلال فترات متقاربة مما يعني أنه سوف يتعذر عليها الصيام خلال هذا الشهر. فما هو الحكم الشرعي لها في هذه الحالة وفي حالة اضطرارها إلى الإفطار فما هي كفارة إفطارها؟
◆ ◆ إذا أخبر الطبيب أن الصوم يزيد من مرض زوجتك الحامل فيجوز أن تفطر ولا كفارة عليها وإنما عليها القضاء بعد الاستطاعة، قال العلامة النفراوي رحمه الله: إذا خافت الحامل على نفسها أو على ما في بطنها أفطرت وجوبا ولو في صيام رمضان حيث خافت هلاكا أو شديد أذى وندبا فيما دون ذلك ولم تطعم على المشهور وإنما تقضي فقط . والله تعالى أعلم.
طعم السواك
◆ ما حكم من وجد طعم السواك في الفم وهو صائم وابتلاع لعابه المختلط بطعم السواك؟ علماً أنني أستخدمه لتحسين طعم الفم بعد الاستيقاظ من النوم صباحاً؟
الجواب:
◆ ◆ إن وصل طعم السواك إلى الحلق عمداً بأن تحلل السواك في فمك وأحسست بطعمه ثم ابتلعته فقد أفطرت، ووجب عليك القضاء مع الكفارة، وأما إن تحلل في فمك وابتلعته دون تعمدٍ فعليك القضاء فقط؛ قال العلامة محمد عليش رحمه الله في منح الجليل: “لم يحرم على الصائم ولم يكره سواكٌ ... بما لا يتحلل منه شيءٌ، وكره بالرطب لما يتحلل منه، فإن تحلل منه شيء ووصل لحلقه عمداً ففيه القضاء والكفارة، وإلا فالقضاء فقط”.
◆ عادة ما تمتد دورتي الشهرية من 7 إلى 9 أيام، وفي الليلة السابعة رأيت قليلاً من بقايا الدورة، وذهبت لأنام وقد نويت أنه إذا أصبحت وانتهت دورتي الشهرية سوف أصوم اليوم، ولم أقم من النوم حتى الساعة 11، مع أنني كنت قد نويت أن أقوم قبل الفجر لأتأكد من وجود أوعدم وجود أي أثر للدورة، ولكنني استيقظت من النوم الساعة 11، ولم يكن للدورة الشهرية أي أثر .. فهل يكون صيامي صحيحاً في هذا اليوم، أم عليَّ أن أفطر .. أم أكمل الصوم ثم أعيد؟
◆ ◆ إن كنت في صيام شهر رمضان فالواجب عليك أن تمسكي ذلك اليوم الذي طهرت فيه لاحتمال كون الطهر قبل الفجر، وعليك أيضاً قضاؤه بعد رمضان، لاحتمال أن يكون الطهر قد حصل بعد الفجر، قال العلامة النفراوي رحمه الله في الفواكه الدواني: “وإذا شكَّت هل طهرت قبل الفجر أو بعده وجب عليها الإمساك والقضاء، والإمساك لاحتمال طهرها قبل الفجر، والقضاء لاحتمال طهرها بعده”.

الاثنين، 30 يوليو 2012

رمضان والإصلاح المنشود


أ‌.    علاء سعد حسن
الإصلاح مصطلح يتردد هذه الآونة على نطاق واسع حتى يكاد يكون صرعة العصر السياسية والإعلامية والاقتصادية ، ولا غضاضة أن يطلق المسلمون مصطلح الإصلاح ويطالبون به ويدعون إليه فالإصلاح مصطلح إسلامي أصيل ومطلب من مطالب الدين ، وليس بالضرورة أن نتجنب كل ما ينادي به الآخرون أو نتشكك حياله ، لمجرد أنهم اتخذوه شعاراً ولو أرادوا منه غير وجهه الذي يسعى المسلمون إليه ، والقرآن الكريم يرشدنا إلى أن الناس إن فعلوا غير ما يعلنون أو خالفت أعمالهم المصطلح الذي ينادون به فلا يدعونا ذلك إلى رفض المصطلح ولكن رفض أفعالهم فيصف القرآن الكريم أفعال أقوام : (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)البقرة 93 ، ولقد نعى القرآن الكريم على الذين يعلنون بألسنتهم وأبواق دعايتهم عكس ما يفعلون موضحاً أن القول قد يخالف العمل جملة وتفصيلا فقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)البقرة204-205  .

الإصلاح مطلب ديني
والإصلاح مطلب ديني وهو جوهر الرسالات السماوية ووظيفة الأنبياء كما ورد ذلك على لسان نبي الله شعيب (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) هود88، والإصلاح الذي هو جوهر الدين ومطلب الرسالات وعمل الأنبياء هو الإصلاح الشامل لكل مجالات الحياة ومختلف جوانب المجتمع البشري ، الإصلاح العقائدي بتوحيد الله تعالى وحده وإفراده بالعبادة وإخلاصها له وتكوين التصور الصحيح عن الكون والخلق والملائكة والرسل واليوم الآخر ومكانة الإنسان ودوره في الحياة ، والإصلاح الاقتصادي لذا كانت دعوة نبي الله ( شعيب ) تقرن بين الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى إصلاح النظام الاقتصادي بإيفاء الكيل والميزان وعدم بخس الناس حقوقهم .. ، والإصلاح الاجتماعي الذي اقترن بدعوة نبي الله لوط عليه السلام حيث دعا قومه مع التوحيد إلى التخلص من الفاحشة التي عمت مجتمعهم وهي فاحشة الشذوذ والمثلية ، أما دعوة موسى عليه السلام فقد اقترنت بالمطالبة بالإصلاح السياسي ، لقد بعث موسى عليه السلام إلى فرعون في دولة لها كل معالم وعناصر الدولة المعروفة من حاكم وملأ وحاشية ، وجيش وأبواق دعاية وإعلام ، ولقد استبد هذا الفرعون برأيه ، وكان من دعوة موسى عليه السلام له (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَالأعراف105 ، (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىطه47 ، وهو مطلب سياسي شبيه بالمطالبة بالحكم الذاتي ..

ولقد كانت الدعوة الإسلامية دعوة إصلاحية شاملة في كل جوانب الحياة 
غير أن هذا الإصلاح الشامل الذي دعا إليه الدين لم يعن الاستبدال أو التغيير بمعناه الإقصائي أو الانقلابي ، فلم يرسل الله تعالى الرسل لقتل مخالفيهم والقضاء عليهم ، ولكن أرسلهم لهدايتهم وإصلاح اعوجاجهم وتغيير أفكارهم وسلوكياتهم ، ولم يكن التغيير بمعنى الاستبدال والإقصاء إلا مرحلة أخيرة بعدما تسد كل فرصة للإصلاح والتغيير بالوسائل السلمية ، وبعدما لا يكتفي هؤلاء المفسدون بفسادهم ولكن يتعدون ذلك إلى الدعوة إلى هذا الفساد والعمل على إجهاض كل محاولات الإصلاح ، والتعدي على المصلحين والإساءة إليهم ومنعهم جبرا من دعوتهم الإصلاحية ..

وعلى هذا فالإصلاح الشامل الذي يريده الإسلام لاسيما في مراحله الأولية لا يعني الانقلاب أو التغيير بقدر ما يعني مد يد العون لجميع مؤسسات المجتمع لتحقيق الإصلاح والصلاح ، فالإصلاح ليس ثورة على النظم القائمة والمؤسسات العاملة بقدر ما هو التعاون على سد الثغرات وردم الفجوات والعمل على التسديد والمقاربة، " إن الترابط هو ترابط الحب ، لا البغضاء ، وإن النصيحة لتصدر من هذا المنبع العذب ، أنا أنصح أخي لأنني أحبه ، لأنني أريد له الخير ، لأنني أريد أن آخذ بحجزه أن يقع في النار ! وهو يتقبل مني النصيحة على هذا الوضع .. لأنه يحبني ويثق في نظافة النصح والتوجيه ، أما ( الأخذ على اليد ) بما تحمله من معنى الزجر أو العنف فليست أول الطريق ! إنما هي النهاية حين تفشل الوسائل كلها ، ولا يتبقى غير هذا الطريق ![1]

صلاح الفرد مقدمة طبيعية لصلاح المجتمع
والإسلام في دعوته الإصلاحية الشاملة له منهج خاص في تحقيق إصلاح المجتمع ، منهج يقوم على إصلاح الفرد ، ولا غرو في ذلك فالفرد هو نواة المجتمع ولبنة بنائه ، فالإصلاح في الإسلام ليس إصلاحا دعائيا أو سلطويا بل هو إصلاح قاعدي يبدأ من الفرد ويعود عليه بالنفع والفائدة ، فلا فائدة من دعاوى إصلاحية ضخمة ومصطلحات رنانة وأبنية مؤسسية تحمل عناوين براقة لكنها في النهاية تبقى خاوية بلا سكان ولا حياة ، ولذا كان صلاح الفرد المسلم صلاحا للمجتمع كله ، وليس هذا بعجيب ، فالمجتمع الرياضي يغلب على أفراده ممارسة الرياضة ، والمجتمع الاقتصادي يغلب على أعضائه الاشتغال بالاقتصاد، وكل مجتمع كذلك ، وكذلك المجتمع الصالح هو المجتمع الذي يغلب على أفراده الصلاح بصفتهم الشخصية ،ولا اعتراض على ذلك بأنه قد يوجد الفرد الصالح لكن في مجتمع يغلب عليه الفساد والإفساد فيضطهد هذا الفرد ويهمش ، لا اعتراض بذلك لأن الفرد الصالح لا يتصف بصفة الصلاح دون أن تلزمه صفة أخرى هي المصلح ، أي أن يصلح نفسه ويدعو غيره ، ويقوم بواجبه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهكذا تعم قيم الصلاح وتنتشر من فرد إلى فرد حتى تغلب على المجتمع ككل ، ولذا فصلاح الفرد مقدمة طبيعية وبديهية لصلاح المجتمع بكافة مؤسساته السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية والرياضية والإعلامية..

دور شهر رمضان في إحداث الإصلاح الشامل
فإذا كان صلاح الفرد هو صلاح للمجتمع ، فإن فريضة الصيام وشهر رمضان الكريم هي إحدى وسائل الإسلام في تحقيق تربية الفرد المسلم على الصلاح والاستقامة ، وتقويم اعوجاجه والسعي لتحقيق التقوى الشاملة لله تعالى ، فغاية فريضة الصيام التقوى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )البقرة183 ، وتحقيق التقوى على اتصال وثيق بقضية الإصلاح ، ولقد عقب الله تبارك وتعالى على المفسد في الأرض (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)البقرة206 ، ولذا كان شهر رمضان هو مناسبة كبرى على طريق إصلاح الفرد والمجتمع ، فكيف يؤدي شهر رمضان المبارك هذه الوظيفة الإصلاحية في حياة المسلمين ؟ وكيف يترجم المسلمون أنفسهم هذا التصور الإيماني والعقلي إلى ممارسات عملية نستطيع معها أن نعلن أن واقع الأمة الإسلامية والمجتمعات المسلمة خلال شهر رمضان وبعده يتغير عن واقعها قبل رمضان ، يتغير في اتجاه الإصلاح الشامل المنشود ؟

أولا :إعادة التوازن بين القيم والغرائز
إن الهدف المحوري الفعال الذي تقوم عليه فريضة الصيام هو إعادة التوازن المفقود بين القيم النبيلة الراقية وبين شهوات وغرائز الإنسان ، أو إعادة التوازن بين متطلبات النفس الإنسانية من متطلبات الروح ، ومتطلبات الجسد ، فلا شيء يهدد صلاح المجتمعات على كافة المستويات سوى تحكم الغرائز والشهوات وعبودية الهوى ، وعن مثل هذا يحدثنا القرآن الكريم في أكثر من موضع محذرا من ارتكاس الإنسانية إلى درك الحيوانية حينما تعلو الغرائز والشهوات وتسود فوق القيم العلوية ، والقواعد الربانية المنظمة لحياة البشر : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)محمد 12، (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَالأعراف 179 ، وعن اتباع الهوى الذي غايته تحقيق أطماع الإنسان ونزواته وشهواته يقول (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)القصص50 ، ويقول (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِالأعراف176  ، ففريضة الصيام تعمل على هذه المنظومة أو الثنائية ، ثنائية القيم والرغبات أو القيم والغرائز ، إن إعادة التوازن المفقود لهذه الثنائية ، ورد الاعتبار للقيم الراقية التي يمكن أن تغيب في أزمة المادية الطاحنة ، هي أهم مقومات الإصلاح المنشود ، والإسلام لا يكبت رغبات الإنسان ولا يرفضها أو يحرمها بإطلاق ، ولكنه يضع لها قيودا وضوابط لتصريفها في ظل أطر اجتماعية محترمة هي ما نطلق عليها بعض القيم والأصول الاجتماعية ، ويفرض الله تبارك وتعالى الصيام حيث ينظم هذه العلاقة بين الروح والجسد بين الشهوات التي زينت للناس بالغريزة ، وبين تلك القيم ، فيمنع عن المسلم الطعام والشراب والجماع وقتا معلوما من اليوم هو النهار كاملا من الفجر إلى غروب الشمس ، ويبيح له التمتع بما أحل الله ليلا تدريبا وتعويدا وتوازنا : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِالبقرة 187

ثانيا: تقوية التحكم في النفس والسيطرة على الذات
ويقدم شهر رمضان من خلال فريضة الصيام وأثرها التربوي فرصة ذهبية للإنسان للتحكم والسيطرة على النفس ، فرصة ذهبية من خلال نهار كامل يمتنع فيه عن الطعام والشراب والجماع ودواعيه أو مقدماته ، فهو فرصة للمدخن أن يتحكم ويسيطر على إدمانه للتدخين ، وفرصة لمدمن المنبهات والمكيفات في السيطرة على هذا الإدمان ، وفرصة لمدمن الصور الماجنة والأفلام الإباحية والمواقع الخليعة وكلها تعد من مقدمات الجماع ودواعيه أن يقلع عن إدمانه .. إن نهار رمضان فرصة لكل مبتلى ليجاهد نفسه ويقوي إرادته ويعيد تحكمه وسيطرته على رغباته في محاولة للوصول لحالة عالية من ضبط النفس والسيطرة عليها ، وأن يحقق الفرد المسلم وقفة مع الإصلاح النفسي والسلوكي والأخلاقي تكون له زادا إصلاحيا طول العام ..

ثالثا : ربط الخاص بالعام  
لم يجعل الله تبارك وتعالى فريضة الصيام فريضة فردية يقوم بها المسلم في أي زمن شاء ، مثل صيام التطوع فيكون هذا صائم وذاك مفطر ، ولكن جعلها في أيام معدودات معلومات شهر رمضان الكريم ، فكأنها فريضة جماعية تجب على الأمة المسلمة كلها في زمن واحد حتى يؤتي الإصلاح الفردي أكله على المستوى الجماعي .. المجتمع كله يشترك في أداء الفريضة يمارس تفاعلاته الاجتماعية ومتطلبات حياته اليومية كلها من خلال فريضة الصيام ، ليكون التأثير على الفرد ، ويكون التأثير على المجتمع ككل من خلال الربط بين الخاص والعام وبين العبادة الفردية بين الفرد وربه وخصوصية التعبد بها ، فلا يعلم إلا الله تعالى صدق وإخلاص عبده الصائم (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ... )الحديث[2] ، وبين جماعية الأداء حيث تكون الأمة كلها صائمة باعتبار شهر رمضان دورة تدريبية إصلاحية ونفحة ربانية لا تعتمد على انتخاب طائفة من الأمة كفريضة الحج مثلا ، ولكنها تشمل الأمة بمجموعها حتى لا يبقى فيها مفطر واحد إلا استثناء (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) البقرة184.

وكما ذكرنا من قبل فصلاح الفرد المسلم هو صلاح للمجتمع ككل ، فالمسلم لبنة في بناء المجتمع ، ولذا كان كل فرد في الإسلام مخاطبا في ذاته ، ومسؤولا مسؤولية كاملة عن نفسه أمام الله (وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) مريم95، والفرد المسلم رجل موقف ورجل كلمة ورجل تميز في ذاته وشخصيته ، فلقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإمعة الذي يكون مع الناس فيحسن إن أحسنوا ويسيء إن أساءوا ، ولكن عليه أن يتفرد بالإحسان إن أساء الناس ، فالمسلم علم على الإصلاح يرجع إليه الناس ،ولا يرجع هو إلى كثرة ولا قلة في المجتمع ، ولذا كانت فرائض الإسلام الكبرى تستهدف هذا الفرد بالعناية والتربية والتوجيه والتزكية وصولا من الخاص إلى العام ، ومن الفرد إلى الجماعة ..

رابعا :ربط العبادة بالأخلاق والمعاملات 
ولأن الصيام – كما الصلاة والزكاة والحج - فريضة وشعيرة إسلامية ذات أثر تربوي ودور فعال في بناء شخصية المسلم فهي ليست مجرد طقوس تؤدى ثم ينتهي أثرها بانتهاء أدائها ، وإنما لكل عبادة من عبادات الإسلام غاية وحكمة وثمرة ، وأثر كل العبادات على الفرد المسلم يتعدى حدود الأداء إلى مختلف الأخلاق والمعاملات ، فلقد ربط الإسلام برباط وثيق بين العبادات أو الشعائر التعبدية وبين الأخلاق الشخصية وبين المعاملات الحياتية في رباط فريد ومنظومة متكاملة تهدف في مجموعها إلى صلاح الفرد والمجتمع ، ولم يترك الله تبارك وتعالى أثر كل عبادة يفهمها كل مسلم على حده وتؤتي تأثيرها عليه بشكل مختلف عن الآخر ، وإنما أوضح الله تعالى الغاية والأثر التربوي من كل فريضة فيقول تعالى عن الصلاة (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)العنكبوت45 ، وقد جاء في الحديث : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ، ويقول صلى الله عليه وسلم عن الصيام : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يضع طعامه وشرابه ، وينتقل الحديث إلى الربط بين فريضة الصوم وبين السيطرة على النفس حتى في الانفعالات أثناء المعاملات ( الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل ، فإن إمرؤ قاتله أو شاتمه فليقل : إني صائم مرتين ... ) الحديث[3] ،وفي الزكاة يقول : إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا[4] ، وفي الحج يقول : وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك ، ناداه مناد من السماء : لا لبيك ولا سعديك ، زادك حرام ، ونفقتك حرام ، وحجك مأزور غير مأجور [5]..

وعن الدعاء يذكر الرجل أشعث أغبر يطيل السفر يقول يا رب يا رب ومأكله من حرام ومشربه من حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له ..

وفي مقام الترغيب في الخلق الحسن يقول : إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم
إن الربط بين العبادة وأثرها التربوي وثمرتها المرجوة في إصلاح النفس والمجتمع ، ينقلها من مجرد عبادة تؤدى بطريقة آلية قد تشبه العادة في بعض الأحيان إلى دائرة التفكر والتعايش معها بالوجدان والقلب والعقل والشعور لتسيطر على النفس سيطرة كاملة وتصيغها صياغة جديدة ، تنقلها من واقع إلى واقع آخر مغاير ، وهذا بالطبع غير قول الفقهاء أن العبادات توقيفية غير مقاصدية ، لأن العبادات توقيفية في إتباع الأداء على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي .. وفي الحج : خذوا عني مناسككم .. ، ولكن كون العبادات توقيفية تؤدى طاعة لله تعالى علم الإنسان الحكمة منها أم لم يعلم ،هذا كله لا ينافي السؤال عن المقصد والغاية لتحقيقها والاستثمار الأمثل من حسن أدائها (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)البقرة183.

استفادة المسلمين المرجوة من شهر رمضان
لقد علمنا ما لشهر رمضان وفريضة الصيام فيه من وظيفة إصلاحية تجمع بين إصلاح الفرد والمجتمع عن طريق إعادة التوازن بين القيم والغرائز ، وتقوية قدرة الإنسان على السيطرة على النفس والربط بين الخاص والعام أو الفردي والاجتماعي وبين العبادات والمعاملات والأخلاق في منظومة واحدة متكاملة ، فكيف يستثمر المسلمون هذه المنظومة الإصلاحية المتكاملة لتحقيق خطوة إصلاحية في حياتهم على مستوى الفرد والمجتمع ؟

إن أول مطلب من مطالب استثمار شهر رمضان في الإصلاح هو النظر في فقه العبادة وغايتها والرجوع إلى ربط العبادة بالأخلاق والمعاملات ، والنظر في آدابها وخلقها ، فلكل فريضة في كتب الفقه الإسلامي آداب كما لها أحكام ، ولا يجب أن يقف المسلم عند حدود أحكام الفريضة مثل : ماذا عليه لو أكل أو شرب ناسيا ، وهل يستاك وهو صائم ، إلى آخر هذه الأحكام الفقهية للفريضة ، وإنما عليه كذلك أن ينظر في آدابها وأخلاقها التي نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه مثل : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يضع طعامه وشرابه ، ومثل قوله : إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ، وغيرها من أحاديث الآداب والربط الأخلاقي بالعبادة .

المطلب الثاني هو النظر في عيوب النفس لإصلاحها ، فالإنسان يلجأ إلى الطبيب لعلاج مرض محدد ، أو عرض دائم ، وما دمنا نتناول الإصلاح ، فالإصلاح لا يكون إلا لعيب أو خلل ، ولا مجال لإصلاح لا يحدد فيه الإنسان عيبه بدقة ليتعاطى بمصداقية مع المناسبة الإصلاحية .. لابد إذن من الوقفة مع النفس لتحديد العلة أو الخلل ، هل هو شح مطاع أو سرعة غضب أو تحكم وسيطرة شهوة ، أو ضعف إرادة ، أم تكاسل عن الطاعة .. .. الإجابة عن السؤال : أين الخلل ؟ هي أول مراحل الإصلاح (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)القيامة14

المطلب الثالث إعادة الاعتبار للأخلاق والمعاملات باعتبارهما من مكملات العبادة وآدابها ، فلا غناء لإحداهم عن الأخرتين ، والأمة المسلمة أمة متدينة بطبيعتها بل هي أكثر الأمم تديناً حتى في واقعنا المعاصر الذي تلام فيه على تقصيرها في حق دينها ، فإنها أكثر أمم الأرض تدينا وإقبالا على العبادة غير أن الربط بين الشعائر التعبدية والأخلاق والمعاملات والرغبة في التميز الحضاري هي المفردات الغائبة نسبيا والتي بوجودها في حياة المسلمين تتحقق شمولية الإصلاح

المطلب الرابع : الخروج من قوقعة الذات والنظر إلى المجتمع والأمة بشكل عام ، ومناحي الحياة العامة التي تحتاج إلى إصلاح ، لأن سفينة المجتمع واحدة ، والغرق لا يكون لفئة دون فئة ، ولذا سألت السيدة عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا كثر الخبث .. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصح للناس ، وتربية الأبناء والأسر ، وإشعار المفسدين برفض فسادهم ، كلها من عوامل الضبط الاجتماعي التي تحول دون تصدع المجتمع وتفشي ظواهر الفساد والانحلال فيه ، إن التحول إلى فعاليات العمل العام والمشاركة في مؤسسات المجتمع المدني أحد أهم ركائز الإصلاح ، وليس المقصود بالعمل العام وقفا على العمل السياسي فحسب ، ولكنه كل عمل يؤدي إلى تطوير المجتمع وإصلاحه ويشمل كافة مجالات الحياة كما يشمل العمل التطوعي بأنواعه ..

إن عزوف الفرد عن المشاركة في العمل العام هو أول درجة من درجات تصدع كيان المجتمع حيث تتعمق السلبية والفردية ، بينما يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أول مرحلة من مراحل المشاركة في العمل العام ، فليس المسلم فردا منعزلا عن مجتمعه، بل هو جزء في كل وواحد من مجموع ، ولقد كانت الدعوة القرآنية إلى العمل العام من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل الدعوة إلى إقامة مؤسسات المجتمع المدني نفهم ذلك من قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران104.

لعل هذه المتطلبات هي أهم ترجمة عملية وتفعيل تطبيقي لاستثمار مدرسة رمضان الإصلاحية ، تفعيلا لدور الشهر المبارك في الإصلاح الشامل المنشود ..

[1] - من كتاب قبسات من الرسول للأستاذ محمد قطب ص161
[2] - رواه أحمد ومسلم والنسائي وهو حديث قدسي
[3] - رواه البخاري وأبو داود
[4]  -  ذكره فقه السنة ج1ص649 وقال حديث صحيح
[5] - رواه الطبراني في الوسط ، ورواه الأصبهاني مرسلا مختصرا

الصلاة آخر وصايا رسولنا الكريم وهو في سكرات الموت


أحمد شعبان
الصلاة من العبادات المهمة التي أوصى بها الله - عز وجل - ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنها الصلة الوحيدة بين العبد وربه وكانت آخر وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في سكرات الموت: “الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم”.
ويقول الدكتور منتصر مجاهد - أستاذ التربية الإسلامية بجامعة قناة السويس - من أدعية القرآن الكريم التي اهتمت بفريضة الصلاة قوله تعالى: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء)، دعاء من العبد لله سبحانه وتعالى بأن يجعله محافظاً على الصلاة مقيماً لها ولحدودها هو وذريته مؤدياً ما فرضه الله عليه من فريضة الصلاة، ولذلك أكدت الآية الكريمة هذا الدعاء بأن يتقبل الله تعالى دعاء وسؤال عبده بأن يقيم الصلاة. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه في صلاة قيام الليل ويقول: “اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا وعن يساري نورا وفوقي نورا وتحتي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا وعظم لي نورا”، وكان يدعو ربه وهو راكع ويقول: “اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي”.
شأن الصلاة


والإسلام عظم شأن الصلاة ورفع ذكرها وأعلى من مكانتها فهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: “بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان”، والصلاة أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: “أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله”، والصلاة الفارق بين المسلم والمشرك قال تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم: “بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة”.
والصلاة حاجز بين العبد والمعاصي قال تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون)، يحث الله تعالى عباده المؤمنين على تلاوة القرآن الكريم واتباع ما أنزل به وإقامة الصلاة لفضلها وشرفها وآثارها الجميلة فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر بالإضافة إلى أن الصلاة لها مقصود وفائدة أكبر، وهي ذكر الله بالقلب واللسان والجسد لأن الله تعالى خلق الخلق لعبادته وأفضل عبادة تقع منهم الصلاة التي تشترك فيها كل الجوارح.
والصلاة لها فضائل كبيرة منها أنها كفارة للخطايا والذنوب قال تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين”، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم: “أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا: لا يبقى من درنه شيء قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا”، ومن فضل الصلاة أيضاً أنها نور للعبد كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم: “الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السموات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها”.
مواقيت
والصلاة يجب أن تؤدى في أوقاتها المحددة شرعا قال تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا)، وأداء الصلاة في وقتها من أحب الأعمال إلى الله. عن عبدالله بن مسعود قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أحب إلى الله؟ قال: “الصلاة على وقتها” قال: ثم أي قال: “ثم بر الوالدين” قال ثم أي قال: “بر الوالدين” قال: ثم أي قال: “الجهاد في سبيل الله”.
وحث الإسلام على وجوب أداء الصلاة في المساجد قال تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا)، فبينت الآية وجوب صلاة الجماعة في حال الحرب ففي حال السلم من باب أولى. وجاء في ذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل قلبه معلق بالمساجد وبيوت الله من دخلها فقد حل ضيفاً على ربه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: “المسجد بيت كل تقي وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة”، والخشوع في الصلاة ضرورة لقبول الصلاة قال تعالى: (قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون).

أحمد معاق ذهنياً يحفظ القرآن كاملاً بأرقام الآيات والصفحات


لجنة المسابقة تساعد أحمد في الوصول إلى مكانه

سامي عبدالرؤوف
لم تمنع الإعاقة الذهنية أحمد مسلم من حفظ القرآن الكريم، وحفظ أرقام الآيات والصفحات وتسلسل أجزاء وأحزاب كتاب الله، كما يحفظ مواضع السجدات، حسب ترتيبها، ويحفظ كتاب الله باللغتين الانجليزية والفرنسية، رغم أنه لم يدرس اللغتين واقتصرت معرفته بهما على ما كانت تعلمه له أمه من بعض حروف بسيطة، خاصة أن والدته لا تجيد تلك اللغتين وتكتفي منهما بمعرفة الحروف وقليل من الكلمات، لكنه علم نفسه بمتابعة البرامج وقنوات التلفاز الناطقة باللغتين.
وأحمد مسلم عبيد، يتيم الأب، ويصفه البعض بأنه «كمبيوتر» قرآني في عقل إنسان يعاني من إعاقة ذهنية نتج عنها عدم القدرة على الحركة الطبيعية وعدم القدرة على الحوار الطبيعي مع الآخرين. وأحمد تستضيفه جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم كضيف شرف هو واثنين آخرين من ذوي الإعاقة الذهنية، الذين يمتلكون مواهب ومعجزات في حفظ القرآن الكريم، وقد نظمت الجائزة لأحمد مسابقة خاصة ضمن فعاليات اليوم الثاني للمسابقة الدولية، ووجهت له 12 سؤلاً في حفظ القرآن وأرقام الصفحات والآيات والآيات المتشابهات حسب ترتيب المصحف، فأجاب عنها جميعاً، حتى إنه نال استحسان وإعجاب الجمهور والمتسابقين الأسوياء، الذين لم يمتلكوا إلا أن يصفقوا له بعد أن أنهى الإجابة عن الأسئلة.
الغريب والمدهش في الوقت ذاته، أن أحمد، عندما كانوا يحاولون إيقافه من قبل لجنة التحكيم كان لا يتوقف ويستمر في القراءة للآيات الأخرى ويعقد مقارنات بين الآيات ويتحدث عن مكان الكلمة داخل الصفحة.

وقد اكتشفت إمكانات ومواهب أحمد القرآنية، مؤسسة دار أبرار مصر لذوي الإعاقة الذهنية، عندما نظمت أول مسابقة للقرآن الكريم للمعاقين ذهنياً في العام 2010.
إلى ذلك تقول سامية محمود خليل، والدة أحمد مسلم، التي تعمل موظفة في الإصلاح الزراعي بمصر: أحمد ابني الوحيد، وهو صغير لم يكن يتكلم حتى عمر 3 سنوات، فكنت أحاول تسليته عن طريق قراءة ما تيسر من المصحف، فلاحظت أنه عندما أتوقف، يفتح المصحف ويطلب مني بحركات معينة أن أعاود القراءة.
وتضيف الأم المرافقة لابنها في رحلته للإمارات: بدأت أكثر له من قراءة القرآن وأعلمه بعض الحروف، ووجدت أنه بدأ يميل إلى سماع القرآن رغم إعاقته، فكان دائم الإنصات إلى المذياع أو النظر إلى التلفاز، وظهرت عليه علامات سرعة البديهة، فأخذ يقلد ما يسمع بأصوات غير مفهومة، مشيرة إلى أنها بدأت تحفظ ابنها بعض آيات القرآن من مواضع مختلفة بالمصحف، فإذا بها تفاجأ بعد فترة أنها كلما أرادت أن تحفظه شيئاً، بأنه يحفظه فعلاً.
وأوضحت أم أحمد الذي توفي والده منذ 8 سنوات وتركه وحيداً، أن ابنها يقرأ القرآن باللغتين الإنجليزية والفرنسية بعد أن سمع مفردات من اللغتين عن طريق المذياع والتلفاز. وتصف الأم، حياة ابنها بأنه يعيش مع القرآن، دائم الترتيل له، رغم أنه لم يحصل على شهادة علمية، بل لم يكمل دراسته الابتدائية، كما أنه لا يحسن قراءة أي شيء ما عدا القرآن.
بدوره، كشف إسماعيل طنطاوي، رئيس مجلس أمناء مؤسسة إبرار مصر لذوي الإعاقة الذهنية، أن المؤسسة أجرت اختبارات ذهنية لأحمد، فتبين أن عمره العقلي هو عمر طفل يتراوح عمره بين 5 و 6 سنوات، بينما عمره الطبيعي 21 عاماً. ويشير إلى أن قدرات أحمد محدودة ولا يستطيع معرفة عنوانه أو الوصول إلى منزله أو ركوب المواصلات وحده، كما يحتاج إلى من يساعده ويعتمد عليه في كل أمور حياته، واصفاً ما يتمتع به من قدرات قرآنية، بأنه نموذج ومثال يحتذى به بين الأسوياء.

إبن حزم والحجاج «شقيقان» في حدة اللسان والسيف


أحمد مراد
يعد إبن حزم الأندلسي من أكبر علماء الإسلام تصنيفاً وتأليفاً بعد الطبري، وهو إمام حافظ، وفقيه ظاهري، وأحد المجددين في علوم الفقه، كما كان متكلماً، وأديباً، وشاعراً، ووصفه البعض بالفيلسوف.
يقول د. عبدالمقصود باشا - أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر: ولد إبن حزم في الثلاثين من رمضان عام 384 هـ، الموافق 7 نوفمبر عام 994م في قرطبة، وعاش حياته الأولى في صحبة أخيه أبى بكر الذي كان يكبره بخمس سنوات في قصر أبيه أحمد بن سعيد أحد وزراء المنصور بن أبي عامر، وابنه المظفر من بعده، ويمتد نسب أسرة ابن حزم إلى يزيد بن أبى سفيان، وقد بدأت هذه الأسرة تحتل مكانها الرفيع كواحدة من كبرى العائلات بالأندلس في عهد حكم المستنصر، ونجحت في امتلاك قرية بأسرها هي “منت ليشم”، وكان لوالد إبن حزم مجلس يحضره العلماء والشعراء، وقد كان لهذا أثره على ولده في تمكنه من اللغة والشعر واهتمامه بهما، كما كان والده من المشاركين في حركة الإفتاء بالأندلس من خلال مجالسه العلمية والمناظرات التي كانت تدور في قصره حتى قال عنه ابن العماد “كان مفتياً لغوياً متبحراً في علم اللسان”، وهذه العبارة توضح الأثر الذي تركه أحمد بن سعيد على ولده ابن حزم الذي اعتمد في فتواه وتفسيره لنصوص القرآن والسنة على ظاهر اللغة، ومن ثم كان والده أحد الأسباب التي دفعته إلى المنهج الظاهري في الفتيا والتفسير بالرغم من أنه كان مالكي المذهب.
ويضيف د. باشا: تولى إبن حزم الوزارة في عهد المرتضي في بلنسية، ولما هزم في أحد حروبه وقع ابن حزم في الأسر وكان ذلك في عام 409 هجرية، ثم أطلق سراحه من الأسر، فعاد إلى قرطبة وبعدها تولي الوزارة لصديقه عبدالرحمن المستظهر في رمضان سنة 412 هجرية، ولم يبق في هذا المنصب أكثر من شهر ونصف، فقد قتل المستظهر في شهر ذي الحجة من السنة نفسها، وسجن ابن حزم، ثم أطلق سراحه، كما تولى الوزارة أيام هشام المعتمد فيما بين عامي “418 - 422” هجرية.

ويشير د. باشا إلى أن إبن حزم كان شافعي الفقه، وانتقل منه إلى الظاهرية، حيث أصلَّ ما يعرف بالمذهب الظاهري وهو مذهب يرفض القياس الفقهي الذي يعتمده الفقه الإسلامي التقليدي، وينادي بوجوب وجود دليل شرعي واضح من القرآن أو من السنة لتثبيت حكم ما، وهو ما جعل الكثير من الباحثين يشيرون إلى انه كان صاحب مشروع كامل لإعادة تأسيس الفكر الإسلامي من فقه وأصول فقه، وفي مذهبه وافق ابن حزم العقيدة السلفية في بعض الأمور من توحيد الأسماء والصفات وخالفهم في أخرى، وكل ذلك كان باجتهاده الخاص، وله ردود كثيرة على الشيعة واليهود والنصارى وعلى الصوفية والخوارج.
وكان الإمام ابن حزم ينادي بالتمسك بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة ورفض ما عدا ذلك في دين الله، وكان لا يقبل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، وكان يعتبرها محض الظن وكان ابن القيم شديد التتبع لآثار وكتب ابن حزم، وكان يصفه بمنجنيق العرب أو بمنجنيق الغرب، وكانت الناس تضرب المثل في لسان ابن حزم، فقيل عنه: “سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان” وكان ابن حزم يبسط لسانه في علماء الأمة، وخاصة خلال مناظراته مع المالكية في الأندلس، وهذه الحدة أورثت نفوراً في قلوب كثير من العلماء عن ابن حزم وعلمه ومؤلفاته، وكثر أعداؤه في الأندلس.
ويقول د. باشا: ألف ابن حزم في الأدب كتاب طوق الحمامة، وألف في الفقه وفي أصوله، وشرح منطق أرسطو وأعاد صياغة الكثير من المفاهيم الفلسفية، وربما يعتبر أول من قال بالمذهب الاسمي في الفلسفة الذي يلغي مقولة الكليات الأرسطية، وذكر ابنه أبو رافع الفضل أن مبلغ تآليف والده فِي الفقه والحديث والتاريخ والأدب بلغ نحو أربعمئة مجلد تشتمل عَلَى قريب من ثمانين ألف ورق، ومن أشهر كتبه الرسالة الباهرة، والأخلاق والسير، والتصفح في الفقه، ومراتب الإجماع، والنبذ في أصول الفقه الظاهري، والإملاء في شرح الموطأ، وأجوبة على المسائل المستغربة من صحيح البخاري، واختلاف الفقهاء مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وداود، ومراتب الديانة، ومهم السنن، ورسالة في الوعد والوعيد وبيان الحق في ذلك من السنن والقرآن.
ويرتبط بمصنفات ابن حزم حادثة خطيرة تكررت بالأندلس كلما ضاق أهلها بأحد ممن يخالفهم من العلماء، وهي إحراق كتبه علانية بإشبيلية أيام المعتضد، ولكن كان له جماعة من تلاميذه النجباء الذين قدروا فكره وحافظوا على كتبه التي كانوا يمتلكونها بنسخها ونشرها بين الناس، وعندما غضب المعتضد عليه آثر أبن حزم السلامة وغادر إشبيلية إلى قريته “منت ليشم” التي كان يمتلكها ويتردد عليها، وظل بها يمارس التصنيف والتدريس حتى وافته المنية عشية يوم الأحد 28 شعبان 456 هـ .

المؤرخون المسلمون أمضى عمره فى الطواف حول العالم


ابن بطوطة أمير الرحالة المسلمين



عمرو أبو الفضل
 الرحالة ابن بطوطة كان مؤرخاً وقاضياً وفقيهاً، أمضى حياته في الترحال والسفر بين المدن والبلدان، وسجل مغامراته ومشاهداته وما رآه فيها من ثقافات متنوعة وعادات وتقاليد، ولسبقه لقب بأمير الرحالة المسلمين.
ويقول الدكتور كارم غنيم، رئيس جمعية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والسُنْة، وُلد محمد بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن يوسف بن اللواتي الطنجي، الشهير بابن بطوطة، سنة 1304 ميلادية - 703 هجرياً، بمدينة طنجة بالمغرب، ونشأ في كنف أسرة حسيبة اشتهرت بالعمل في القضاء والفتوى، وبدأ طلب العلم بحفظ القرآن الكريم، وتلقى دروسه الأولى في الفقه والأصول والحديث والتفسير وعلوم الشريعة، وفقاً للمذهب المالكي السائد في أقطار المغرب، وأتقن اللغتين التركية والفارسية، وشغف منذ صباه بقراءة كتب العرب التي تتناول البلدان من الناحية التاريخية والجغرافية، مثل كتاب “المسالك والممالك” لابن خرداذبة، و”مسالك الممالك” للأصطخري، مما حبب إليه السفر والمغامرة والتعرف على ثقافات الشعوب، وارتحل وهو في الحادية والعشرين من عمره إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، والتوسع في دراسة الشريعة في بلاد العرب، وبدأ رحلته الأولى في عام 725هـ - 1326م، من مدينة طنجة، حيث طاف بأنحاء المغرب الأقصى، ثم اتجه نحو الشرق عبر الجزائر أو المغرب الأوسط، ثم إلى تونس وليبيا، وانتهى به المطاف في مصر. ومن الإسكندرية اتجه جنوباً إلى القاهرة ثم إلى الصعيد حتى وصل إلى ميناء عيذاب على ساحل البحر الأحمر، وعاد ابن بطوطة إلى القاهرة.
في آسيا

تابع ابن بطوطة رحلته إلى مكة المكرمة عن طريق بلاد الشام، وبعد أداء فريضة الحج اتجه إلى العراق وإيران وبلاد الأناضول، ثم عاد إلى الحجاز وحج للمرة الثانية، وبقي في مكة سنتين. وفي عام 730هـ/ 1329م غادر الحجاز متجهاً إلى بلاد الخليج العربي، فدخل البحرين والاحساء واليمن وعمان، وارتحل إلى بلاد الروم، ومنها عاد إلى مكة ليحج للمرة الثالثة، ثم قطع البحر الأحمر فوصل إلى وادي النيل كي يحاذيه باتجاه الشمال قاصداً سوريا، ومنها ركب البحر من اللاذقية قاصداً آسيا الصغرى حيث نزل ميناء آلايا، ومنه إلى ميناء سينوب على البحر الأسود، ثم قصد شبه جزيرة القرم، وتوغل حتى بلاد روسيا الشرقية.
وهناك انضم إلى سفارة السلطان محمد يزبك الذاهبة إلى القسطنطينية، وعاد إلى القرم كي ينطلق منها إلى بخارى وبلاد الأفغان، إلى أن وصل إلى دلهي على نهر الجانج فاستقر بها مدة عامين، عمل خلالهما قاضياً للمذهب المالكي.
وحاول ابن بطوطة أن يرافق بعثة سياسية أرسلها سلطان الهند محمد شاه إلى ملك الصين، فلم يتجاوز جزائر - ذبية المهل - حيث استقر مدة سنة ونصف السنة تولى فيها منصب القضاء، وبعدها استمر في رحلته عن طريق ساحل البنغال، ودخل بلاد الهند الشرقية وجزر إندونيسيا، واتجه إلى زيارة الثغرين الصينيين زيتون - تسوتونج - وكانتون، بعدها عاد إلى الجزيرة العربية عن طريق سومطرة والهند في 748هـ - 1347م، ومنها صعد في الخليج العربي، وعاد إلى بلاد فارس عن طريق ميناء هرمز، ثم سافر إلى العراق فبلاد الشام، فمصر، ومنها انطلق إلى مكة ليؤدي فريضة الحج للمرة الرابعة، وواصل سيره عائداً إلى بلاده عبر مصر وتونس والجزائر حتى وصل فاس في المغرب الأقصى عام 750هـ - 1349م.
بلاد الأندلس
وبعد أن أقام ابن بطوطة في فاس لمدة عام، عاوده الشوق والحنين إلى الارتحال، فقام برحلته الثالثة عام 751هـ - 1350م إلى غرناطة بالأندلس، ثم فاس ليهيئ نفسه لرحلة إلى أفريقيا الغربية عام 754هـ - 1353م، فدخل تومبوكتو وهكار، ومنها عاد إلى المغرب عن طريق مدينة توات، ليستقر هناك فانقطع إلى السلطان أبي عنان فارس المريني الذي أعجب برحلات وأسفار ابن بطوطة وقصصه المشوقة، فطلب منه أن يمليها على كاتبه محمد بن جزي الكلبي، وقام بتسجيل أخبار رحلاته وما فيها من أحداث وعجائب وغرائب وأخبار وتقاليد وعادات الشعوب، ولكل ما صادفه من أماكن وشخصيات ومعالم وأخطار وغيرها من الأمور الشيقة، بمدينة فاس سنة 756 هـ، في كتاب سماه “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” وعرف بعدها بـ “رحلة ابن بطوطة”، وصار من أهم المراجع وأقدمها ودليلاً للجغرافيين العالميين ولكثير من المهتمين بالإطلاع على كل ما يتعلق بثقافات الشعوب والبلدان.
واكتسب شهرة عالمية باعتباره وثيقة تاريخية وجغرافية مهمة، لما ذكره فيه من وصف البلاد وجوها وتربتها وجبالها وبحارها ومن ضبط دقيق لأسماء الرجال والنساء والأماكن والمدن والزوايا وغيرها.
وتُرجم هذا الكتاب إلى عدة لغات أوروبية، منها البرتغالية والفرنسية والإنجليزية والألمانية، ونشر بها، وذكرت الدراسات أن ابن بطوطة هو الرحالة الوحيد في العصور الوسطى الذي فاق “ماركوبولو” وكل رحالة عصره، حيث قطع نحو 120 ألف كيلومتر، واستغرقت رحلته ما يزيد على 29 عاماً، واعترافاً بفضله لقبته جامعة كامبريدج في كتبها وأطالسها بأمير الرحالة المسلمين. وأدركته المنية في سنة 779 هـ/1377م، بمدينة مراكش، ويوجد ضريحه بالمدينة القديمة.

أنت مبدع


طالب الشحي
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “تصدق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها “رواه مسلم
يبين صلى الله عليه وسلم هنا أمراً عظيماً في حياتنا، وهو أن الإنسان عليه أن يسعى في جلب المنافع بكل السبل المتاحة واستغلال ما يمكن الانتفاع به.
ويشير لنا إلى أهمية استعمال الفكر الصحيح في جلب المصالح وهذا ما أشارت إليه الآية القرآنية قال تعالى -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} ويقول سبحانه {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}.
 فديننا العظيم يوجه الإنسان إلى أن يبدع في حياته لجلب منافعه مع الاستعانة بالله سواء ما كان متعلقا بآخرته أو دنياه ولذا جاءت النصوص الدالة على أهمية العمل إذ بالعمل يبدع الإنسان. ولو بقي حبيس نفسه وبيته فلن يصل إلى تحقيق الاستخلاف في الكون.

ومن الإبداع ما وجه الرسول صلى الله عليه وسلم إليه من أهمية الغرس والزراعة مع الإشارة إلى إعمال الذهن إلى الأجر المترتب من الغرس يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يزرع زرعًا، أو يغرس غرسًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة) ، ويوجه إلى السعي في أنواع الحرف: (ما أكل أحد طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده)، كل ذلك ليفتح باب الإبداع في الكسب.
ومما ينبغي التنبيه إليه ما يظنه البعض أن الإبداع أمر عظيم لا يقوم به إلا فئة قليلة تميزوا بذكاء خارق.
ولو نظرنا إلى تعريف الإبداع لرأينا أنه استنباط فكرة جديدة مهما كان نوعها أو حجمها وما أجمل من قال عن المبدعين: (هم الأشخاص الذين لا يعيقون طاقة الإبداع الفكرية ويوجهون قدراتهم في مختلف جوانب الحياة). 
فكل شخص يمكنه أن يكون مبدعًا طالما تهيأت له أسباب الإبداع والجو المناسب للإبداع .
وقد تتكون بعض العوائق أمام طريق من أراد الإبداع فمن ذلك:
الخوف من الفشل، فالبعض يضع أمامه كل احتمالات الفشل عند أي مشروع أو عمل أو يحكم على بالفشل وعدم المقدرة قبل الشروع في العمل.
ومن ذلك، اتباع قواعد غير صحيحة أو يستشير من لا علم ولا خبرة لديه بعمله أو مشروعه وربنا يقول (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
الشعور بالإحباط عند أول خطأ أو إخفاق فيقف المريد للخير مستسلما معلنا فشله. فهنا نقول له ليست المشكلة في الخطأ ولكن المشكلة الاستمرار في الخطأ أو عدم الاستفادة من الإخفاق أو أخذ العبرة والعظة من السبب المؤدي إلى الخطأ.
اعلم أخيرا أنك إن توكلت على الله تعالى وأخذت بالأسباب فستوفق لما ترنو إليه بإذن الله تعالى.


طالب الشحي

الترويح عن النفس في لهو مباح صدقة يؤجر عليها المسلم


من المسلم به لدى علماء النفس أن الإسراف في الكد والعمل وطلب العلم من دون راحة إفراط مهلك، ومن رحمة الله بنا ونعمته علينا أن جعل دين الإسلام دينا شاملاً، يأخذ الإنسان بهذا الشمول، ليصل به إلى التوازن والانسجام؛ لذا فقد راعى الإسلام الإنسان عقلاً له تفكيره، وجسماً له مطالبه، وروحاً لها أشواقها وسبحاتها، فعَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ، قَالَ: رَوِّحُوا الْقُلُوبَ تَعِ الذِّكْرَ.
والإنسان قد تمر به لحظات من الفتور والملل من تكاليف الحياة ومشاغلها، ويشعر بحاجة إلى شيء من الترفيه واللهو المباح، فيمزح مع أحد من أهل بيته، أو أصحابه، وهذا ما كان يفعله النبي صلى الله عبه وسلم.
وما أجمل المسلم في الحياة حينما يجمع مع الجد روح الدعابة وفكاهة الحديث، وما أجمل المسلم حينما يجذب القلوب بجاذبية حديثه، ويأسر النفوس بلطيف معشره؛ ذلك لأن الإسلام يأمر المسلم أن يكون ألفاً مألوفاً، بساماً مرحاً خلوقاً حسن المعشر، حتى إذا خالط الناس رغبوا به، وانجذبوا إليه والتفوا حوله، وهذا غاية ما يحرص عليه الإسلام في تربية الأفراد، وتكوين المجتمعات، وهداية الناس.
فوائد المزاح
المزاح أمر مشروع في الإسلام، بل يعد صدقة من الصدقات يؤجر عليها المسلم، والحكمة من مشروعيته أن له فوائد جمة، فهو يدخل السرور على قلب المسلم، ويستعان به على التخلص من السآمة والملل، وطرد الوحشة ودفع الهم والغم والقلق، به يصبح البيت سعيداً، والمدرس الناجح يمزح مع طلابه، والطبيب الناجح تجده مرحاً، يؤانس المريض ويطمئنه، ويعطيه أملاً فيشفي الله عز وجل المريض بسبب هذه المعنويات المرتفعة.
ولا شك في أن التبسط لطرد السأم والملل، وتطييب المجالس بالمزاح الخفيف، الخالي من كل معصية، لا إثم فيه، بل فيه خير كثير، وإذا كانت النية في الترويح عن النفس الاستعداد لطاعة الله، والإقبال على العمل بجدية ونشاط، فعند ذلك يصبح الترويح عن النفس عبادة، قال أبو الدرداء: إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو فيكون ذلك عوناً لي على الحق، ويقول علي بن أبي طالب: روحوا القلوب فإنها إذا كرهت عميت، وما ساعة الراحة إلا ساعة عون للنفس على العبادة، ويقول أيضاً: روحوا القلوب وابتغوا لها طرف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان، فهي ضرورية كضرورة النوم لجسم الإنسان.
وما ورد من الأحاديث في النهي عن المزاح إذا كان فيها غيبة أو إيذاء للآخرين، أو نحو ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مازح أصحابه.
لا إفراط
نخلص إلى أن المزاح أمر مشروع، إذا كان الغرض منه الاسترواح عن النفس ودفع الملل والسأم والكرب عن النفوس، ويثاب عليه صاحبه إذا ابتغى من ورائه وجه الله، وقد يصل إلى مرتبة الواجب إذا كان للاستعانة به على أداء الواجب، وخلا من المخالفات الشرعية، وأن يكون المازح مقتصداً فيه، فيوازن بين الجد والهزل، إذا التوازن أمر مطلوب في كل شيء، وبذلك تستمر الحياة، وتتحقق الغاية من خلق الإنسان، ويفوز بالسعادة في الدارين.
فإن بعض الناس يغلب عليهم الاسترسال في المزاح والمبالغة فيه، ويصبح ديدنا لهم، وهذا عكس الجد الذي هو من سمات المؤمنين، والمزاح فسحة ورخصة لاستمرار الجد والنشاط والترويح عن النفس، فلا ينبغي أن يكون فيه إغراق في الضحك، كل مزاح النبي صلى الله عليه وسلم مزاح معتدل، وكان يقول: “وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ القَلْبَ”، ففي الإكثار من المزاح توريث للعداوة وتجريء الصغير على الكبير. وقد قال عمر رضى الله عنة: “مَنْ كَثُرَ ضَحِكُهُ قَلَّتْ هَيْبَتُهُ، ومَنْ مَزَحَ اسْتُخِفَّ بِهِ، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ عُرِفَ بِهِ، وَمَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ، وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ.
فبعض الناس قد يفرط في المزاح بما يتجاوز به الحد المقبول، وهذا لا يكون له نية صالحة في مزاحه هذا، وغالبا ما يسقط من عيون الناس، فلا يهابونه، بل يتجرؤون عليه، ويتطاولون عليه حتى السفهاء منهم، لأنه حط من شأن نفسه، ولم يحفظ لها احتشامها ورزانتها، ومن كثر مزاحه نقصت مروءته، وضاعت هيبته.
والاقتصاد في المزاح مطلوب إلا في السفر، فيستحب الإكثار منه دون معصية، لقول ربيعة الرأي، وقد عد المزاح المشروع في السفر مروءة: الْمُرُوءَة سِتّ خِصَال: ثَلَاثَة فِي الْحَضَر، وَثَلَاثَة فِي السّفر، فَفِي الْحَضَر تِلَاوَة الْقُرْآن، وَعمارَة مَسَاجِد اللَّه، واتخاذ الْقرى فِي اللَّه، وَالَّتِي فِي السّفر، فبذل الزَّاد، وَحسن الْخلق، وَكَثْرَة المزاح فِي غير مَعْصِيّة.
المزاح حرفة
وقد يحلو للبعض أن يكثر من المزاح حتى يصير لديه حرفة، ولازمة من لوازم حياته التي يعرف بها، ظاناً بذلك أنه يصنع معروفا لغيره، وهذا من الغلط العظيم، يقول الإمام الغزالي: “من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان الْمِزَاحَ حِرْفَةً يُوَاظِبُ عَلَيْهِ وَيُفْرِطُ فِيهِ.
ولذلك قال أحدهم لولده: “اقتصد في مزحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ السفهاء، وإن التقصير فيه يغض عنك المؤانسين، ويوحش منك المصاحبين”.
فكل إنسان يحتاج إلى ترويح وتسلية وترفيه وانبساط، لأن الإسراف في الكد والعمل وطلب العلم من دون راحة إفراط مهلك والإسراف في الراحة والتفكه وترك العمل تفريط بحق الجسم والنفس وضار قد يهلك صاحبه، والوسط النافع هو الاعتدال من غير إسراف في بذل الجهد ولا الإخلاد إلى الراحة وترك العمل. لذلك قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ”، أي ألزموا الوسط المعتدل في الأمور تبلغوا مقصدكم وبغيتكم، وفي الحديث نهي عن التشديد في الدين ودعوة إلى العمل بالسداد، وهو القصد والتوسط في العبادة، فلا يقصر فيما أمر به ولا يتحمل منها مالاً يطيقه.
أدب المزاح
إنَّ الأدب العربي يزخر بهذا اللون من الفنون والآداب، فبعض العصور العربية والإسلامية تركت آثاراً ميزته عن غيره، فهذا عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين ممن ترك تراثا لهذا الأدب الرفيع غير المبتذل، وهذا العصر العباسي الذي أضفى طابعاً على الطرفة والمزاح.
ولأهمية أدب الفكاهة في حياة الناس، لجأ إليه الكثير من العلماء والأدباء فاشتغلوا به، حيث إنه يضيف إلى ثقافة المتلقي أو المتذوق فائدة عظيمة، فألف كثير من العلماء في المزاح، فالماوردي تناول الموضوع في أدب الدنيا والدين، وللغزي كتاب بعنوان: “المراح في المزاح”، افتتحه بقوله: “فقد سئلت قديماً عن المزاح وما يكره منه وما يباح، فأجبت؛ لأنه مندوب إليه بين الإخوان والأصدقاء والخلان، لما فيه من ترويح القلوب والاستئناس المطلوب، بشرط ألا يكون فيه قذف ولا غيبة ولا انهماك فيه يسقط الحشمة ويقلل الهيبة”.
ومن أشهر مؤلفات الأدباء في هذا الفن كتاب البخلاء، وكتاب البيان، والتبيين، وكتاب الحيوان للجاحظ، وكتاب البرصان، والعرجان، والعميان، والحولان، وكتاب المحاسن والأضداد، ومن الكتب البارزة في هذا الأدب كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، وكتاب المستطرف، وطوق الحمامة لابن حزم، وكتابي أخبار النساء وروضة المحبين لابن قيم الجوزية، وكتابي أخبار الأذكياء وأخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي، وكتاب لطائف اللطف ويتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي، وكتاب الظرف والظرفاء لأبي الطيب الوشاء، وكتاب عيون الأخبار لابن قتيبة.
د. سالم بن نصيرة

«الفتَّاح» بيده مفاتيح الغيب والرزق والرحمة




أحمد محمد
الفتَّاح، اسم عظيم من أسماء الله تعالى، الذي يفتح بين عباده ويحكم بينهم بشرعه، ويفتح أبواب الخيرات والبركات، فالفتاح صفة جمال وجلال؛ لأنه سبحانه وتعالى يفتح أبواب رحمته ورزقه للطائعين، كما أنه قد يفتح أبواب البلاء والهلاك علي الكافرين، ويفتح قلوب المؤمنين، وعيون بصائرهم، ليبصروا الحق.
و”الفتاح” كثير الفتح على عباده، وبيده مفاتح الغيب والرزق، يفتح بصائر الصادقين فيرون الحق فيسهل لهم سبل الخير والطاعة، وييسرها عليهم، ويهديهم إليها ويسوقهم لها، واسم الله “الفتَّاح” يطمئن قلوب عباد الله المؤمنين بأنه مهما طال ليل الظالم وكثر بغيه وظلمه للعباد، فلا بد أن يفتح الله بين عباده؛ لأن معنى الفتاح الحاكم الذي يقضي بينهم بالحق والعدل.
ورد الاسم مرتين مرة بالإفراد ومرة بالجمع، أولاً في قوله تعالى: (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم)، وبصيغة الجمع، في قوله عز وجل: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين)، أما الفعل “يفتح وفتحنا” فجاءا كثيراً في القرآن الكريم.

كشف الكرب
والفتاح هو الذي بإرادته وقدرته يفتح كل مغلق فيكشف الكرب، ويزيل الغم، ويرفع البلاء، ويكشف العسر بيده مفاتيح الرحمة وأبواب الخيرات والبركات، هو الذي يملك أن يقول سبحانه وتعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم).
والفتَّاح الذي يفتح أبواب النجاح والتوفيق في بداية الأمور، فالآية الكريمة تقول: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)، وهي تقر وجود مفاتح الغيب عند الله وحده ولا يعلمها إلا هو، يفتح بين المتخاصمين بالحق: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين).
والفتاح يأتي بالفتح من حيث لا ندري، يفتح فتحاً مبيناً، يكون فوق قدرة الإنسان على التخيل والتصور (إنا فتحنا لك فتحا مبينا).
والفتَّاح مبالغة من الفاتح، هو الذي بعنايته ينفتح كل مغلق، وبهدايته ينكشف كل مشكل، فتارة يفتح الممالك لأنبيائه، وتارة يرفع الحجاب عن قلوب أوليائه ويفتح لهم الأبواب إلى ملكوت سمائها، ويرى العلماء أن من معاني اسم الله الفتاح أنه الذي بإرادته يفتح كل مغلق فيكشف الكرب ويزيل الهم والغم والمشاكل، يفتح أبواب الرزق، ومنها قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)، أي لو أنهم امتثلوا لأمرنا وراعوا قدرنا في السر والعلانية، لكان من جزاء ذلك أن يفتح لهم من رحمته وأن ينزل عليهم من فيض رزقه. 
فالفتاح يفتح لعباده منافع الدنيا والدين، فيفتح لمن اختصهم بلطفه وعنايته أقفال القلوب، ويدر عليها من المعارف الربانية، والحقائق الإيمانية ما يصلح أحوالها وتستقيم به على الصراط المستقيم، ويهيئ للمتقين من الأرزاق وأسبابها ما لا يحتسبون، ويعطي المتوكلين فوق ما يطلبون ويؤملون، وييسر لهم الأمور العسيرة، ويفتح لهم الأبواب المغلقة.
وقد نسب الله الفتح لنفسه، لينبه عباده على طلب النصر والفتح منه لا من غيره، وأن يعملوا بطاعته، ليفتح لهم وينصرهم على أعدائهم، يقول القرطبي، وهذا الفتح والشرح ليس له حد، وقد أخذ كل مؤمن منه بحظ، ففاز الأنبياء بالقسم الأعلى، ثم من بعدهم الأولياء، ثم العلماء، ثم عوام المؤمنين ولم يحرم الله منه سوى الكافرين.
الفتاح هو الذي يفتح الأبواب المغلقة أو المستعصية، أو الكثيرة، وحينما يطهر الإنسان وتصبح سريرته سليمة، ويستحق الإكرام تأتيه الدنيا وهي راغمة، وقيل الفتاح هو الذي يفتح على النفوس باب توفيقه، كما في قوله تعالى: (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) وبعض العلماء قالوا، الفتاح الذي فتح قلوب المؤمنين بمعرفته، وفتح للعاصين أبواب مغفرته، فإن كان عاصياً فالله عز وجل يفتح له باب المغفرة، وإن كان مؤمنا يفتح له باب معرفته، وقيل الفتاح الذي يعين في الشدائد، يعطي عطاءً زائداً، يفتح أبواب الخير على عباده، ويسهل عليهم ما كان صعباً.
العلم والحكمة
والله الفتاح، يفتح أبواب العلم والحكمة، فإذا أخلص العبد لله أنطق لسانه بالحكمة، أول أنواع الفتح يفتح في أمور الدين وهو العلم، ويفتح في أمور الدنيا، فيكون الإنسان فقيرا فيغنيه، يكون ضعيفاً فيقويه، يكون مظلوماً فينصره على أعدائه، يكون مكروباً فيزيل الكربة ويحل محلها الفرحة.
وعند البخاري من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أُعطيت مفاتيح الكلم، ونصرت بالرعب، وبينما أَنا نائم البارحة إذْ أُتيت بمفاتيح خزائن الأَرض حتى وضعت في يدي”، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أوتي مفاتيح الكلم وهو ما يسر الله له من البلاغة والفصاحة والوصول إلى غوامض المعاني وبدائع الحكم ومحاسن العبارات والألفاظ التي أغلقت على غيره، ومن كان في يده مفاتيح شيء سهل عليه الوصول إليه. وقد توجهت الرسل إلى الله الفتاح أن يفتح بينهم وبين أقوامهم المعاندين، فيما حصل بينهم من الخصومة والجدال.
وقد سمى الله تعالى يوم القيامة بيوم الفتح؛ لأنه يوم القضاء بين العباد، يقول تعالى: (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون).