الأحد، 27 فبراير 2011

أذان المغرب في الحرم الإبراهيمي.. غياب طويل على وقع مجزرة (تقرير)

لم تعد حكاية المجزرة الصهيونية في الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل بالضفة الغربية المحتلة قصة جديدة ترويها صفحات التقارير الإخبارية أو تنقلها وكالات الأنباء المتلفزة، بل تحولت إلى رواية مجزرة بدأت عام 1994 ولم تنته بحلول ذكراها عام 2011، حتى باتت نتائجها تلقي بظلالها على كل ما يحيط بها.
وتركت مجزرة الحرم التي وقعت صبيحة يوم الجمعة في الخامس والعشرين من شباط (فبراير) عام 1994، أطماعًا صهيونية باتت مكشوفة وبدأ تطبيقها للاستيلاء على ما تبقى منه وتحويله إلى كنيس يهودي خالص، حتى وصل الأمر في محاربة "إسلاميته" إلى منع الآذان في مآذنه بشكل متكرر، وكان لـ"أذان المغرب" حكاية أخرى.
وأشارت مصادر من العاملين بالحرم الإبراهيمي لـ"المركز الفلسطيني للإعلام" إلى أن قوات الاحتلال الصهيوني أصدرت قرارًا عسكريًّا ملزمًا بمنع رفع أذان المغرب منذ ست سنوات بحجة أنه يتسبب للمغتصبين الصهاينة في "إزعاج خلال صلواتهم" التي تصادف الموعد، وهو ما جعل أزقة البلدة القديمة وساحات منطقة السهلة والجبال المحيطة تفتقد وتحن لصوت أذان المغرب من حرم خليل الرحمن.
وتقول المصادر إن المنع الصهيوني مطبق بشكل عملي، ويعاقب أي مؤذن يقوم بـ"مخالفته"؛ لكن ذلك لا يمنع عشرات من المجاورين للمسجد بالتوافد إليه في وقت الصلاة حسب الموعد وإن حاول الاحتلال كتم صوته، بل تحول للحظات تحدٍّ مع جنود الاحتلال الذين يعملون للتضييق بشكل كبير على المصلين.
وتنشر بشكل شهري إحصائيات دورية رسمية عن أعداد الأوقات التي تمنع فيها قوات الاحتلال رفع الأذان خلال أشهر العام؛ حتى كان أخرها شهر كانون الثاني (يناير) الماضي من العام الجاري الذي منع فيه الاحتلال رفع الآذان 50 مرة على الأقل من الأوقات بينها 30 مرة من أوقات أذان المغرب.
وفيما يتساءل البعض عن استهداف الاحتلال لوقت أذان المغرب دون غيره، توقعت المصادر العاملة فيه أن المغتصبين يتدفقون إلى الساحات المسيطر عليها في وقت المغرب بشكل كبير لإقامة طقوس تلمودية مزعومة، وتشتكي لجنود الاحتلال من "إزعاج الأذان" لها، وهو ما جعل سلطات الاحتلال الصهيوني تقرر منع رفعه بشكل كامل.
ويزيد عدد المرات التي يمنع فيها رفع الأذان خلال فترة الأعياد اليهودية، ليتجاوز الـ 70 وقتًا، فيما يتراوح معدل المنع في الأيام العادية ما بين 47 إلى 60 مرة، وهو ما يؤكد استهداف الاحتلال للأذان بشكلٍ خاصٍّ في محاولة لطمس صوت الإسلام وإزالة مظاهر الإسلامية عن كل رواق وحجر فيه.
وبعد مرور سبعة عشر عامًا من ذكرى المجزرة الصهيونية التي ارتكبها الإرهابي باروخ غولدشتاين بمساعدة جنود الاحتلال، وارتقى فيها أكثر من 29 مصليًا وأصيب العشرات خلال سجودهم، لم تزل مآذن الحرم صامدة شامخة في وجه الأعداء وإن تقطع صوتها فلم تزل حجارتها تقف لتجدد نداء التوحيد.
ممنوع منذ ست سنوات

حجة إزعاجهم

السبت، 26 فبراير 2011

زكاة التمر

نرجو إفادتنا عن قيمة زكاة التمور الخاصة بالمزارع الموجودة بالدولة، مع العلم بأنها تسقى بمياه آبار وغطاسات.

◆ يجيب المركز الرسمي للإفتاء بالدولة: الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
بارك الله فيك، ووفقك لما يحبه ويرضاه، واعلم أن زكاة مزارع التمور التي تسقى بالآبار أو الآلات واجبة إن بلغ محصولها خمسة أوسق وهي ما يعادل «ستمائة كيلو جرام» تقريبا، فيخرج عنها نصف عشرها أي 5% لقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) (الأنعام:141)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ.. الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ»، رواه مالك في الموطإ. قال العلامة الباجي في شرح الموطإ: «وأما النضح فهو الرش والصب فما سقي بالنضح هو ما يسقى بما يستخرج من الآبار بالغرب (الدلو).
ويستخرج من الأنهار بآلة، ففي هذا نصف العشر لكثرة مؤنته». أما التي يعتمد في سقيها على الأمطار، أو تشرب بعروقها من أرض رطبة مثلا، ففي محصولها العشر فقط أي 10% . والله أعلم.
دَين لا يعرف صاحبه
علي دَين لشخص ولا أعرف مكان هذا الشخص ولا أستطيع الوصول اليه. هل يمكن أن أتصدق أو أزكي بكامل المبلغ وأهب الثواب له؟ أم ماذا أفعل؟
◆ عليك أن تتصدق بهذا المال عن صاحبه، فقد نص الفقهاء على أن من عليه دَين وتعذر عليه معرفة صاحبه، أو الوصول إليه تصدق به عنه.. قال العلامة الخرشي المالكي ناقلا عن الإمام مالك رحمه الله تعالى إنه قال: «ومن عليه دَين لا يعرف صاحبه تصدق به عنه»، وأما سؤالك عن الزكاة به فإن كنت تعني إخراجه عن زكاة مالك فلا يجزئ عنك لأنك لا تملكه. والله تعالى أعلم.
لمس الجُنب ودخول المسجد
هل إذا كان الشخص جنباً وتعامل مع أشخاص وقام بلمسهم هل تنتقل إليهم صفة عدم الطهارة؟ ولي سؤال آخر كنت على جنابة ودخلت المسجد لصلاة الجنازة ولكني حاكيت المصلين في حركاتهم فقط دون نية فماذا أفعل؟ وهل علي كفارة أو ما شابه؟
◆ إذا لمس الجنب جنباً آخر فإن الجنابة لا تنتقل للشخص الملموس، وكذلك إذا لامس الجنب شخصاً فإنه لا ينجس ثيابه ولا بدنه، وذلك لأن الجنب يعتبر طاهر البدن فعرقه طاهر وكذلك سائر بدنه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أنه لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة، وهو جنب فانسل فذهب فاغتسل، فتفقده النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاءه قال: «أين كنت يا أبا هريرة» قال: يا رسول الله، لقيتني وأنا جنب فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله إن المؤمن لا ينجس».
والجنب لا يجوز له دخول المسجد، قال العلامة ابن عرفة رحمه الله تعالى: «تمنع الجنابة دخول المسجد»، وكذلك لا يصلي إلا إذا رفع عنه الجنابة بالاغتسال سواء كانت الصلاة نافلة أو فريضة، إلا إذا كان حكمه التيمم، ففي هذه الحالة يجوز له أن يتيمم ويدخل المسجد ويصلي.
وبناء عليه فكان الواجب عليك أن لا تدخل المسجد حتى تغتسل، ثم بعد ذلك تدخل المسجد وتصلي صلاة الجنازة مع الناس، وليست عليك كفارة معينة على ما فعلته، ولكن عليك أن تستغفر الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.

«وإنك لعلى خلق عظيــم»

إن حياة رسولنا- صلى الله عليه وسلم- تُعد نبراساً ومنهاجاً لبناء الشخصية المسلمة التي تتسم بالحق والخير والسمو والاعتدال، فعظمته- صلى الله عليه وسلم- تُشرق في جميع جوانب حياته، كما قال الإمام علي- كرم الله وجهه-: «كان أجود الناس كفاً، وأوسع الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، ويقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، وما سئل عن شيء إلا أعطاه».
لقد صنعه ربه على عينه، وأحاطه برعايته وشمله بلطفه ورحمته، وخصه بكرامته وأدبه، فجمع له كل المحامد والمكارم ونهاية عظمة الأخلاق، حتى وصفه بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (سورة القلم الآية 4).

إن الأخلاق الفاضلة هي أهم الركائز التي تسير بالأمة نحو واقع أفضل، ومن المعلوم أن الرأفة والرحمة هي جوهر رسالته- صلى الله عليه وسلم- وفيها تركزت دعوته- عليه الصلاة والسلام.
رفقه بالأعرابي
عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أنّه قال: (بال أعرابي في المسجد، فقام النّاس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-:» دعوه وأريقوا على بوله سجْلاً من ماء أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين») (أخرجه البخاري).
(هذا أعرابي يدخل مسجد الرسول- صلى الله عليه وسلم- فيتنحى طائفة منه ويتبول، فهو لا يدري حرمة المساجد التي أمر الله أن تعظّم وتطهّر، عندئذ قام الصحابة- رضوان الله عليهم- يسرعون نحوه يريدون ضربه وتأديبه، فيقول- صلى الله عليه وسلم- «دعوه، لا تزرموه، اتركوه») (أخرجه مسلم)، أي لا تقطعوا عليه بوله، ثم أمر- صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء، فطهر به مكان البول، ثم قام- صلى الله عليه وسلم- باستدعاء الرجل، وقال له: «إن هذه المساجد لا يصلح شيء منها للأذى والقذر، إنما هي للصلاة وذكر الله والتسبيح والتكبير والتهليل».
ثم قام الرجل وتوضأ وأتى ليصلي، وفي التحيات قال في التشهد الأخير: اللهم ارحمني ومحمّداً ولا ترحم معنا أحداً، وذلك لما رأى منه- صلى الله عليه وسلم- من لطف في المعاملة.
فالتفت إليه- صلى الله عليه وسلم-، وقال: «من الذي دعا آنفاً؟» وهو يعرف- صلى الله عليه وسلم- أنه الأعرابي، فقال الأعرابي: أنا، وما أردت إلا الخير، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لقد حجرت واسعاً»(أخرجه البخاري)، يعني: ضيقت رحمة الله، التي وسعت كل شيء، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}(سورة الأعراف، الآية 156)، فعاد إلى قومه فأخبرهم بأخلاق الرّسول- صلى الله عليه وسلم- فدخلوا في دين الله أفواجاً.
هذا هو اللين والرحمة في دعوته- صلى الله عليه وسلم- وكذا دعوة كل نبي، فقد أرسل الله موسى وهارون- عليهما الصلاة والسلام- إلى فرعون، فقال لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (سورة طه، الآية 44)، ولو أنَّ المسلمين تمسَّكوا بهذا الخلق الرفيع- من الرفق في الدعوة، وحسن النّصح والإرشاد- لعاشوا سعداء.
رفقه بالشباب
لقد كان- صلى الله عليه وسلم- رحيماً بالبشرية كلها، يأخذ بأيدي الناس إلى الخير
 والهدى بالحكمة والموعظة الحسنة، كيف لا؟! وربنا سبحانه وتعالى مدحه قائلاً {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (سورة القلم الآية 4) .
وعند دراسة سيرته- صلى الله عليه وسلم-نجد أنه- صلى الله عليه وسلم- قد عالج بعض الحالات الشاذة هنا وهناك بحكمته المعهودة، كما جاء في الحديث عن أبي أمامة- رضي الله عنه -أن شاباً أتي النبي- صلى الله عليه وسلم- يريد أن يدخل في الدين الإسلامي، لكنه لا يستطيع ترك الزنا، فقال: (يا نبي الله أتأذن لي في الزنا، فصاح الناس به، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «قربوه، أدن» فدنا حتى جلس بين يديه - صلى الله عليه وسلم-، فقال-عليه الصلاة والسلام-: أتحبه لأمك ؟، قال: لا، فداك أبي وأمي، قال: أتحبه لابنتك؟، قال: لا، فداك أبي وأمي، قال: أتحبه لأختك؟ قال: لا، فداك أبي وأمي)(أخرجه أحمد).
وجاء في بعض الروايات أنه- صلى الله عليه وسلم- ذكر العمة والخالة، والشاب يقول في كل واحدة: لا، فقال الرسول: «كذلك الناس- يا أخا العرب- لا يحبونه لأمهاتهم، ولا لزوجاتهم، ولا لأخواتهم، ولا لبناتهم...!!»، ولما كان جواب الحبيب- صلى الله عليه وسلم- مقنعاً ومؤثراً قال الشاب: ادع الله لي يا رسول الله، فوضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده الشريفة على صدره ودعا له بثلاث دعوات قائلاً: «اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه»، يقول الشاب: «والله ما إن قال الرسول ما قال، حتى انصرفت عنه ولا شيء أبغض إلى نفسي من الزنا ... !!».
إن الإسلام لا يحارب الشهوة أو الغرائز لكنه يعمل على تهذيبها ضمن الأطر الشرعية، فقد حرم الإسلام الزنا وأوجد البديل وهو الزواج، لذلك يجب علينا أن نيسر أمر الزواج للشباب حتى نحميهم من الانحراف.
رفقه بالأطفال
لقد ضرب- صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة في رحمته وشفقته على الأطفال كيف لا وهم ثمرة 
الفؤاد، ومهج القلوب حيث جاء في الحديث (بينما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي بالناس إذ جاءه الحسين فركب عنقه وهو ساجد، فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه حدث أمر، فلما قضي صلاته قالوا: قد أطلت السجود يا رسول الله حتى ظننا أنه قد حدث أمر، فقال- صلى الله عليه وسلم -: «إن ابني قد ارتحلني- أي جعلني كالراحلة فركب على ظهري- فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته» (أخرجه النسائي والحاكم).
هذا هو ديننا الإسلامي الحنيف يعطف على الأطفال، ويوصي بهم خيراً، فهم عماد الأمة، وثروتها الحقيقية، بينما نرى ما يفعله المحتلون بالأطفال في فلسطين والعراق وغيرهما من قتل وتشريد وتنكيل، وتيتيم لهم، وتدمير لبيوتهم، وتجريف لمزارعهم، ومنعهم من الحصول على العلاج والدواء وغير ذلك، فمتى يشعر أطفال فلسطين بالحرية كبقية أطفال العالم ؟!!
رفقه باليتامى
لقد ملأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاياه وأحاديثه باحترام حق اليتيم في العطف وفي الحياة، حيث كان- عليه الصلاة والسلام - يقف بين أصحابه ويشير بأصبعيه السبابة والوسطى-ثم يقول: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما» (أخرجه البخاري)، أي أن كافل اليتيم لا يفصل مكانه في الجنة عن مكان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-إلا مثل ما يفصل بين الأصبعين من مسافة..!! وفي ذلك تكريم لكافل اليتيم لا يساويه تكريم.
كما ورد عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله وصام نهاره، وغدا وراح شاهراً سيفه في سبيل الله، وكنت أنا وهو في الجنة أخوين.. كما أن هاتين أختان، وألصق أصبعيه السبابة والوسطى»(أخرجه ابن ماجه)، ويقول: «من مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله، كان له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وفرق بين أصبعيه: السبابة والوسطى» (أخرجه أحمد)، ويقول أيضاً: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه» (أخرجه ابن ماجة).
فأين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا لم نكفل اليتيم ؟! وإلى من ندع ذلك الطفل الذي فقد أباه أو أمه أو والديه كليهما؟!
هذا هو منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو منهج محبيه وتابعيه والمحتفلين بذكرى مولده العطرة، والمحتفين بمبادئه وسننه الشريفة العادلة، التي تحب الخير للبشرية جمعاء. فما أحوج العالم اليوم إلى رسالة الإسلام وعقيدته، عقيدة الحب والخير والسلام للبشرية جمعاء.
الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة
خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك

الفاكهة تذيب الدهون وتحمي من الجلطات الدماغية والنوبات القلبية

من أطعمة القرآن وردت في القرآن إحدى عشرة مرة

أحمد محمد
وردت كلمة فاكهة في القرآن إحدى عشرة مرة منها قوله تعالى: «فيهما فاكهة ونخل ورمان» (سورة الرحمن 68)، وقوله تعالى «وفاكهة مما يتخيرون» (الواقعة 20)، «وفاكهة كثيرة» (الواقعة32) «وفاكهة وأبا» (عبس 31)، «فواكه وهم مكرمون» (الصافات42) «وفواكه مما يشتهون» (المرسلات 42).
وردت كلمة فواكه بالجمع ثلاث مرات أولها في سورة المؤمنون: «وأنزلنا من السماء ماء بقدرٍ فأسكناه في الأرض وإنا على ذهابٍ به لقادرون فأنشأنا لكم به جناتٍ من نخيلٍ وأعنابٍ لكم فيها فواكهُ كثيرة ومنها تأكلون»، والثانية في سورة الصافات «وما تجزون الا ما كنتم تعملون إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مُكرمون في جنات النعيم، والثالثة في سورة المرسلات «إن المتقين في ظلالٍ وعيون وفواكه مما يشتهون كُلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، إنا كذلك نجزي المحسنين».
ما أكل رطباً

وقيل أن الفاكهة هي الثمار كلها، وقيل بل هي الثمار ما عدا العنب والرمان وهذا قول أبي حنيقة، واستدل بقوله تعالى: فيهما فاكهة ونخل ورمان.
وقال العلامة ابن كثير: الفاكهة كل ما يتفكه به من الثمار، وقال ابن عباس الفاكهة كل ما أكل رطباً.
وقال القرطبي: «وفاكهة» أي ما يأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ وغيرهما «وأبا» هو ما تأكله البهائم من العشب، وقيل الفاكهة رطب الثمار، والأب يابسها.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خلقتم من سبع، ورزقتم من سبع، فاسجدوا لله على سبع». وإنما أراد بقوله: «خلقتم من سبع» يعني «من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة»، والرزق من سبع، وهو قوله تعالى: «فأنبتنا فيها حباً وعنباً» إلى قوله: «وفاكهة» ثم قال: «وأبا» وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم، وأنه مما تختص به البهائم.
وقد ذكر القرآن الكريم العديد من أنواع الفاكهة بالتفصيل وذكر ربنا تبارك وتعالى بعضها باسمه مثل العنب والتين والرطب والموز والرمان والسدر، وهناك فواكه أخرى كثيرة لم يرد ذكرها باسمها وهي تدخل تحت ما ورد باسم فاكهة وفواكه، ومنها المانجو والبرتقال والتوت والتفاح والمشمش والخوخ والكمثرى والبطيخ والشمام والجوافة وغيرها.
ولو تفحصت القرآن الكريم فلن تجد آية واحدة تقدم الأطعمة الثقيلة على الفاكهة وهو ما أشارت إلية الآيات حول ترتيب أولوية الطعام في الأكل الدنيوي في قوله تعالى:»وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون». وفي الجنة: «وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون» وهناك أهمية كبيرة عند تناول الفاكهة قبل اللحم لأن الفاكهة تحوي سكاكر بسيطة سهلة الهضم وسريعة الامتصاص مما يعمل على تهيئة المعدة حتى تستقبل الطعام الثقيل كاللحوم. فسبحان من تجلت حكمته في تقديم أكل الفاكهة على اللحم قبل قرون من اكتشاف العلماء لذلك.
بدون أضرار جانبية
ويؤكد علماء التغذية أن الفاكهة لها تأثير إيجابي كبير على الصحة وفي الغالب ليست لها أضرار جانبية، وهي تشرح الصدر وترفع المعنويات، وتذيب الدهون، وتخلص الجسم منها، وتنشط الكليتين، وتكافح العدوى، وتساعد الكبد على أداء وظائفه بشكل أكثر قوة، وتحمي من الجلطات الدماغية والدموية والنوبات القلبية والسكري والتسمم الغذائي، وتساعد في خفض ضغط الدم والتئام الجروح، وتقوي القلب والأعصاب والأسنان، وتفتت الحصى وتنظم عمل الجهازين الهضمي والتنفسي. وينصح اخصائيو التغذية بتناول 250 جراماً من الفواكه يوميا على الأقل، فهي تمد الجسم بالفيتامينات والأملاح الضرورية لعمل الأعضاء المختلفة. علاوة على ذلك تتميز الفواكة باحتوائها على قدر قليل من السعرات بالنسبة لحجمها ووزنها، مما يساعد على احتفاظ الجسم بالقوام الجميل وخفة الحركة، بالإضافة إلى الفائدة الكبيرة التي تعود على سلامة الجسم وصحته. ومن يود التخسيس فعليه بالإكثار من تناول الفواكه، فهذا يعمل تلقائيا على التقليل من أكل المواد المرتفعة السعرات مثل الدهون والنشويات والبروتينات.
حديقة نباتية قرآنية
هناك فوائد جمة للفواكه لا تعد ولا تحصى إذ أنها غنية بالفيتامينات المتعددة وأيضا تحتوي على المعادن والحديد فهي مهمة لجمال ونضارة البشرة. وتنبهت بعض الجهات العربية لأهمية الأشجار المثمرة والفواكه الكثيرة في القرآن المجيد، وبادرت بإنشاء حديقة نباتية قرآنية كريمة، تشتمل على زراعة الأشجار الوارد ذكرها في القرآن الحكيم. 

العلماء: المناسبات الدينية تقوي الإيمان وتسهم في تماسك المجتمعات ووحدتها

الإسلام أجاز الاحتفال بها

لاتزال الأمة الإسلامية تعيش في رحاب المولد النبوي الشريف وهي مناسبة إسلامية جليلة وإطلالة للرحمة الإلهية للعالمين مليئة بالدروس والعبر، وتتعدد في تاريخنا المناسبات الإسلامية العظيمة التي تجعل الأمة متصلة بأحداثها وتجدد المعاني الإسلامية الأصيلة التي تفيد الأجيال الصاعدة في حاضرها ومستقبلها، وهو ما يفرض أن نعكف على فهم ودراسة واستخلاص ما فيها من قيم ومبادئ لمواجهة التحديات التي تعترض طريق التقدم.
عمرو أبو الفضل (القاهرة) - يقول الدكتور عبدالله بركات- الأستاذ بجامعة الأزهر- إن الإسلام يعمل على إصلاح المجتمعات وتحقيق قيم التضامن والوحدة والألفة بين الناس ولهذا كرس مبادئه ورسالته لتحقيقها، مضيفاً أن مقاصد الإسلام جعلت الشعائر والمناسبات الإسلامية وسيلة لتقوية وتثبيت هذه القيم.
تعارف ومحبة
وقال بركات إن الإسلام يؤكد أهمية صلاة الجماعة لأنها تربط بين أفراد المجتمع وتزيد التعارف والمحبة والصداقة وكذلك الصيام يوحد المجتمع والزكاة توحد بين الأغنياء والفقراء حتى لا يحقد الفقير على الغني ويتحقق الود والحب والألفة بين الناس والحج نوع من التوحيد والتقريب فهو يجمع شعوب الأمة كلها على صعيد واحد، كما أن المناسبات الدينية مثل المولد النبوي الشريف وليلة القدر والإسراء والمعراج والهجرة فرصة كبيرة لجعل الأمة على قلب رجل واحد وتذكيرها برسالتها وقضاياها وأوجاعها وتجديد العهد أمام الله لنصرة الحق والعدل والخير والفضائل لكل الإنسانية.
ويضيف أن الإسلام رغب في الاحتفال بالمناسبات الدينية لأن فوائدها عظيمة على الأمة فهي تعد باباً لشكر نعم الله تعالى على الناس ووسيلة لتربيتهم وتزكيتهم وتعليمهم وهدايتهم وتقدمهم على صعيد حياتهم المادية والمعنوية فالهجرة تذكر المسلمين بتحولهم من الضعف إلى القوة، والإسراء والمعراج تذكر المسلم بالمسجد الأقصى وارتباطه العميق بالمسجد الحرام، مؤكداً أن الشريعة الإسلامية أجازت الاحتفال بهذه المناسبات ووردت أدلة كثيرة تحض على ذلك وتعتبرها من أفضل الأعمال وأعظم القربات لأنها تذكير بأيام الله تعالى، الذي قال في محكم آياته:» وذكرهم بأيام الله « سورة إبراهيم - الآية 5.
وأوضح أن السنة النبوية الشريفة أقرت ذلك ففي صحيح مسلم أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يصوم يوم الاثنين من كل أسبوع ويقول:» ذاك يوم ولدت فيه «، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صائمين يوم عاشوراء فقال لهم رسول- صلى الله عليه وسلم:»ما هذا اليوم الذي تصومونه؟»، فقالوا: هذا يوم عظيم نجى الله عز وجل فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:» فنحن أحق وأولى بموسى منكم «، فصامه رسول الله- عليه الصلاة والسلام.
مظاهر القوة
ويقول الدكتور عبدالحليم عويس- أستاذ الحضارة بجامعة الأزهر- إن الإسلام وضع معالمه في كل مجالات الفكر والحياة وحدد الثوابت التي توجه المسيرة البشرية في كل العصور إلى الطريق القويم الذي يجب أن يتجهوا إليه، كما أنهم بعد ذلك مطالبون بالإبداع في مجال التطبيق معتمدين على عقولهم وطاقاتهم مستنيرين بالثوابت والأصول مستجيبين لتوجيه الرسول-عليه الصلاة والسلام:»أنتم أعلم بأمور دنياكم».
وأضاف أن مناسبات الأمة الدينية تذكرنا بسيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبشخصية هذا النبي العظيم وبرسالته العالمية الخالدة التي جعلها الله رحمة للعالمين.
وقال إن الشعوب الإسلامية مطالبة بتبصر ودراسة الأحداث والانتصارات الكبرى في تاريخها للوقوف على مظاهر القوة والتأسي والتشبه بسلفنا الصالح والاقتداء بهم في سعيهم وكفاحهم وجهادهم في سبيل نصرة الإسلام، وأن يستوعبوا سنن الله، وأن يلتزموها وألا يحاولوا القفز من فوقها وأن يدركوا أن تمكينهم في الأرض مشروط بالتفقه بهذه السنن والتزامها في الحركة التاريخية والابتعاد عن التواكل والعفوية.
وأكد أن الاعتماد على الله والتوكل عليه بمعناهما الحق يوجبان فقه المفاتيح والأساليب والوسائل التي خلقها الله سبحانه وجعلها قاسما مشتركا بين كل الناس ومعالم تدلهم على وسائل البقاء والتقدم والتعمير.
وقال إن تجديد وعي الأمة أمر على جانب كبير من الأهمية لأن فيه اعتراف بفضل الله تعالى وكرمه علينا ورحمته بنا، والله تعالى يقول:»يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذا جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا»، فعندما نذكر غزوة الخندق أو غزوة الأحزاب ومحاولة قريش ومن معها القضاء على الإسلام وقتل الرسول- صلى الله عليه وسلم- ورعاية الله تعالى للرسول-عليه الصلاة والسلام- وتبديد وتفريق جمعهم وتأييد المؤمنين بنصره فهذه نعم كبرى يجب أن نشكر الله تعالى عليها وأن نجتمع لنتدارسها ونستخلص العبر منها.
تماسك المجتمعات ووحدتها
وقال الدكتور أحمد السايح - الأستاذ بجامعة الأزهر- إن الإسلام حريص كل الحرص على تحقيق المقاصد التي تنهض بالأمم وتكرس الحق والعدل والأمن والاستقرار والألفة بين الناس، مضيفاً أن القرآن الكريم والسنة مليئان بالمبادئ والأوامر التي تؤكد تماسك المجتمعات وتضامنها ووحدتها ويعتبرها جزءا من الإيمان، يقول الله تعالى:»إنما المؤمنون إخوة»، وهو ما يعني أن الإيمان لا يتحقق إلا بالأخوة، والاحتفال بهذه المناسبات فرصة للقاء المسلمين على الخير وسماع الكلمات والدروس المرققة للقلوب والتواصي بالحق والتناصح. ويضيف أن تقوية روابط الإيمان تتحقق بتأكيد العهد أمام الله تعالى وطلب مغفرته وعونه ومدده والبذل والسعي بجد والتخلص من الأنانية والأحقاد خاصة في مناسباتنا الدينية. وقال إن الانتماء لرسالة الإسلام الخالدة وقيمه التي تعلي الرحمة والخير للإنسانية يفرض أن تقف الأمة في مناسباتها وتراجع ذاتها وتبحث عن أسباب تراجعها وتخلفها وتفرقها.
نبذ التخاصم والشقاق
يؤكد الدكتور أحمد السايح أن الإسلام شدد على نبذ التخاصم والشقاق وإقرَّ العدل والقسط بين الناس، والاحتفاء بأيامنا العظيمة تأكيد وتذكير بهذه القيم والمبادئ، وحرص ديننا الحنيف على أمن الأمم واستقرارها وصل إلى حد العمل على فرضه ولو بقوة السلاح، ويقول الله تعالى:»وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أَمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأَقسطوا إن الله يحب المقسطين»، والرسول- صلى الله عليه وسلم- عد الإقدام على أي عمل يفرق بين الناس ويمزق وحدتهم من أعمال الكفار والجاهلية وليس من تصرفات المؤمنين الذين ينتسبون إلى الإسلام وذلك عندما قال في حجة الوداع للمسلمين:»لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»، كما قدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- توجيهات للأمة بتحققها تتحقق الخيرية في المجتمع المسلم، يقول عليه الصلاة والسلام:»سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».

الكفاءة المهنية في التصور الإسلامي

لقد خلق الله تعالى البشر ليكون التعاون فيما بينهم، وما ذلك إلا وفق مقتضيات المدنية التي ركبت في طباعهم، وجبلت عليها فطرهم. وفي الوقت ذاته قسم المواهب بينهم، كما قسم بينهم أرزاقهم، فاحتاج كل منهم إلى الآخر ليكمل بعضهم بعضاً، في الحرف والمهن، وما يحتاجونه من المنافع والصناعات، وفق أخلاقيات وضوابط تؤدي بهم إلى الاستقامة في حياتهم والانضباط في حرفهم. وكان مما أبتلي به بعض المجتمعات الآن تواري الكفاءات في المهن والأعمال، وضياع الأمانة في الحرف والصناعات، وغياب الفضل والإحسان في تبادل المنافع والمعاملات. وما حدث ذلك إلا لغياب الأخلاق المهنية التي أقرها الإسلام لدى الممتهنين، ليكون من خلالها الإتقان في العمل، والإجادة في الصنع، والإتقان في الحرف. هذه الأخلاقيات التي لو روعيت كما وضعها الإسلام لودع الغش دنيا الناس في أعمالهم ومهنهم، ولنعم الناس بالأمانة والإتقان التي توشك أن تغيب من دنيا التعامل فيما بينهم، وتأتي على رأس تلك الأخلاقيات في الكفاءة المهنية التي جعلها الإسلام من جملة مقاصده الأساسية في مجال الحرف و»الإتقان للعمل»، ويقصد الإسلام بالإتقان هنا «أن يحكم الإنسان أي عمل ويؤديه بجودة، وأن يخرج من بين يديه على أحسن وجه وأتمه».
وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه). ولن نصل بالصنعة أو العمل إلى درجة الإتقان إلا إذا قام على أمره المهرة الأكفاء المناسبون له، والمتخصصون فيه. من أجل هذا حرص الإسلام على إيجاد الكفاءات في مختلف المهن والأعمال واهتم بنوعيتهم وكيفهم، لا كمهم وكثرتهم، ذلك لأنه بالكفاءات النابهة تبنى الأمم، وتنهض المجتمعات، لذا وجدنا عمر بن الخطاب وقد عول على الكفاءات العسكرية حال الحرب، ورأى أن الواحد من هذه الكفاءات يعدل ألفاً ممن سواه، حيث بعث عمرو بن العاص لفتح مصر، ومعه أربعة آلاف جندي فقط، ثم طلب منه مدداً، فأمده بأربعة آلاف، ومعهم أربعة من أصحاب الكفاءات الحربية، قال في شأنهم الفاروق عمر «كل واحد منهم بألف» واعتبر المجموع اثنا عشر ألفاً، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة «لقد آمن عمر في هذه الواقعة أن العبرة بنوع الرجال وكفاءتهم وقدراتهم ومواهبهم المناسبة للعمل، لا بأعدادهم وأحجامهم.
وروي عنه أنه جلس يوماً مع بعض أصحابه في دار رحبة فقال لهم تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى أن يكون لي ملء هذه الدار دراهم من فضة أنفقها في سبيل الله، وتمنى آخر أن يكون له ملؤها ذهباً ينفقه في سبيل الله ،أما عمر فقال:ل كنى أتمنى ملء هذه رجالاً مثل أبى عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبى حذيفة فأستعملهم في سبيل الله «لقد أيقن عمر بمقولته تلك أن الأمم لا تبنى بالكثرة الغثائية وإنما تبنى بسواعد الكفاءات الموهوبة والمخلصة من أبنائها الذين صدقوا ربهم وأوطانهم ما عاهدوهم عليه وما بدلوا تبديلا. وهو في هذا لم يخرج عما قرره القرآن الكريم مما ينبغي توافره في أصحاب المهن المختلفة. حيث بين القرآن أن الكفاءة والخبرة والمقدرة، أول ما ينبغي توافره في أصحاب الحرف والأعمال» وهذا ما دل عليه قول ابنة شعيب تخاطب أباها (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) القصص (26) .والقوة هنا تعني الكفاءة والمقدرة التي بها يتأتى الفعل. فقد بينت في قولها هذا معيار الاختيار للوظيفة والعمل، وبينت أن الكفاءة والمقدرة هي أول ما يبحث عنه في ذلك، وليس حكم ابنة شعيب ومعيارها هنا في تولي الوظيفة والمهنة منبعه الهوى، بل مرده إلى الاختبار واليقين، حيث رأت من كفاءة موسى عليه السلام ما يرشحه للعمل عند شعيب عليه السلام، إذ رفع حجراً لا يقوى على حمله إلا العصبة أولى القوة، فاستدلت بذلك على قوته وكفاءته وقدرته وأهليته للعمل. كذلك نجد هذا المعيار وقد تعارف الجن عليه أيضاً في عالمهم، فعندما خاطبهم نبي الله سليمان عليه السلام قائلاً لهم في شأن ملك بلقيس (يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) النمل (38). هب من رأى في نفسه الأهلية والكفاءة من الجن معلناً عن نفسه، كاشفاً عن مواهبه ومؤهلاته، قائلاً: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) النمل (39). وكأنه عرف كذلك أن الكفاءة والقدرة من مبررات الترشح للوظيفة، ومن السمات التي يجب توافرها في الممتهن. ودلتنا هذه الواقعة مع نبي الله سليمان كذلك أنه عند تعدد الكفاءات فإنه يختار لإنجاز المهمة الأكفأ والأقدر، ألم تر إلى قول الله سبحانه وتعالى في سياق القصة ذاتها (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) النمل (40).

وكأن العلم عند هذا الجني قد زاد عن سابقه، فأهله للعمل وإنجاز المهمة بدلاً منه نظراً لزيادة كفاءته عن سابقه. من هذا نأخذ أن مدار الكفاءة في الإسلام إنما يرجع إلى العلم والخبرة اللذين من خلالهما يكون الإتقان في العمل والتجويد في المهنة والإصلاح فيها، لأجل هذا نقرأ عند الإمام الغزالي فيما بثه من حكم لتلميذه في رسالته له «أيها الولد العلم بلا عمل جنون، والعمل بغير علم لا يكون».
من هنا كان العلم الذي يعد أساساً للكفاءة شرط في كل عمل قيادي وغير قيادي سواء كان عملاً سياسياً إدارياً، مثل عمل يوسف عليه السلام الذي قال له ملك مصر (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) يوسف ( 55،54) .
وقوام هذه المؤهلات أمران:حفظ، يعني به الأمانة. وعلم يقصد به الخبرة والكفاءة.
وهذا يوافق ما أوردناه سابقاً على لسان ابنة شعيب عليه السلام، وعلى لسان الجني في حديثه مع نبي الله سليمان عليه السلام. كذلك يشمل العلم الذي هو عنوان للكفاءة والدربة الأعمال العسكرية، كما قال الحق سبحانه في تعليل اختيار طالوت ملكاً على أولئك الملأ من بنى إسرائيل ( قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) البقرة (247) . لذلك يحذر الحسن البصري رضى الله عنه من الكفاءات الزائفة التي تدعي الأهلية للعمل فيقول «العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح»، ويلحق بما سبق من يٌنصِب نفسه للفتوى، إذا لم يكن أهلاً لها كفء لمنصبها ومهنتها متمكناً في عمله، فقيهاً في دينه، فإنه والحالة هذه «يحرم الحلال، ويحل الحرام، ويسقط الواجبات، ويلزم الناس بما لم يلزمهم به الله تعالى، ويقر المبتدعات، ويبدع المشروعات، ويكفر أهل الإيمان، ويبرر كفر أهل الكفر، وهكذا»، وهذا كله مرجعه إلى غياب الكفاءات المؤهلة لعمل الفتوى بالعلم والفقه وغير ذلك من المؤهلات والشروط. ولقد رأينا تشديد النبي صلى الله عليه وسلم على من ينصب نفسه لهذا العمل وهو غير كفء له أو غير حائز مؤهلاته، حينما أنكر على من تسرع في الفتوى في عهده فأفتى بها رجلاً به جراحة، أصابته جنابة أن يغتسل، دون رعاية لما ألم به من جراح، فكان ذلك سبباً في موته. فقال عليه الصلاة والسلام «قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم». وهنا نلحظ كيف اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم فتواهم التي غاب عنها الكفاءة والأهلية قتلاً له، ودعا عليهم بقوله «قتلهم الله» ومعنى هذا أن تولي الأدعياء الوظائف مَفسدة تجلب الدمار على الأفراد والجماعات، ولهذا يقول ابن حزم «لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها، وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون، ويقدرون أنهم يصلحون». ويلحق بالفتوى مهنة «الداعية» فالكفاءة والأهلية المؤسسة على العلم مطلوبة له وإلا أضر بعمله ومهنته، ومن ثم كان قول الله تعالى تعالى ( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يوسف (108). فكل ممتهن للدعوة يجب أن يكون عمله ودعوته على بصيرة ودراية، ومعنى هذا أن يكون على بينة من دعوته، ومعرفة مستبصرة بما يدعو إليه فيعلم إلام يدعو؟ ومن يدعو؟ وكيف يدعو؟ وإلا لم يكن كفء لعمله الدعوي.
هذا ويترجم فلاسفة الأخلاق الإسلاميين «للكفاءة» «بالحكمة» والتي تعني الإصابة في العلم والعمل وعلى ذلك يكون الرجل الحكيم هو الرجل البصير بوضع الأمور في نصابها، وهى فضيلة عقلية تمكن صاحبها من حسن القيام بعمله». ويرى ابن مسكويه، والإمام الغزالي «أنها فضيلة النفس الناطقة المميزة». ويذهبا كذلك إلى أنه من خلال الحكمة يمكن للإنسان أن يقدر حركاته بالقدر الواجب في كل الأحوال، وأن يلم بصواب الأفعال. كذلك يؤكد ابن مسكويه أن للحكمة أقساماً كثيرة تعد مقومات للكفاءة بالمصطلح المهني هي:
الذكاء: ويعنى سرعة انقداح النتائج وسهولتها على النفس.
الذكر: وهو ثبات صورة ما يخلصه العقل، أو الوهم من الأمور.
التعقل: وهو موافقة بحث النفس عن الأشياء الموضوعة بقدر ما هي عليه.
صفاء الذهن: وهو استعداد النفس لاستخراج المطلوب.
جودة الذهن وقوته: وهو تأمل النفس لما قد لزم من المقدم.
سهولة التعلم: وهي قوة للنفس وحدة في الفهم بها تدرك الأمور النظرية.
هذه صفات من خلالها تتكون الحكمة ويحصل العلم لدى الإنسان بها، وباجتماعها تتم الكفاءة الذاتية لديه، وهذا ما ينشده الإسلام لدى العمال والممتهنين كافة في الحرف وسائر الأعمال.
د. محمد عبد الرحيم البيومي
كلية الشريعة والقانون - جامعة الإمارات

الخميس، 24 فبراير 2011

ماحكم الترجي بسيدنا محمد وآل البيت ؟

هل له أن يلزم زوجته بترك عملها ؟!

لتنزع عقول أهل ذلك الزمان

عَنْ أَبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ". قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: "الْقَتْلُ". قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ؟! إِنَّا لَنَقْتُلُ كُلَّ عَامٍ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا. قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا". قَالُوا: وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: "إِنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيُخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ، يَحْسِبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ". قَالَ أَبُو مُوسَى: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مِنْهَا مَخْرَجًاً - إِنْ أَدْرَكَتْنِي وَإِيَّاكُمْ- إِلا أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْنَا فِيهَا؛ لَمْ نُصِبْ مِنْهَا دَمًاً، وَلا مَالاً.
 
ـــــــــــــــــــــ
 
أخرجه أحمدُ(19492) ، وابنُ ماجه (3959) ، وابنُ حِبّان (1870) وغيرهم ، وصحّحه الألبانيُّ (سلسلة الأحاديث الصحيحة ، 1682). قوله: "بِالْمُدِّ": أَيْ مِنْ أُجْرَة الْعَمَل.

حكم الانتحار

حكم الانتحاربعدما أحرق أحد أهل تونس نفسه تسخطا على الظلم الذي تعرض له
استغل الشيطان جهل بعض الناس وبعدهم عن معرفة أحكام الشرع
فوسوس لآخر في الجزائر فأحرق نفسه
ووسوس لثالث في مصر فأحرق نفسه !!ـ

وقد أمرنا الله تعالى باتخاذ الشيطان عدوا
ومعرفة مصائجه وحبائله وخطواته
فهو يهدف ويعمل على ان نكون جميعا من أصحاب السعير



أما بالنسبة للانتحار وقتل النفس
فقد نهانا الله تعالى عن ذلك وحرمه علينا

وحرّم الجنة على من يقتل نفسه وينتحر

والذي يقتل نفسه بشيء يعذب به في جهنم والعياذ بالله


بل إن النبي صلى الله عليه وسلم توعد فاعل ذلك بالخلود في النار
إن كان مستحلا لقتل نفسه قانطا من رحمة الله تعالى




ما حكم المنتحر وهل يجوز الصلاة عليه والدعاء له ؟

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

الاثنين، 21 فبراير 2011

فضائل لا إله إلا الله

خالد بن عبد الله المصلح

الخطبة الأولى

أما بعد... أيها المؤمنون اتقوا الله ربكم فإن الله جل ذكره خلقكم ببالغ قدرته ونافذ حكمته لأمر عظيم جليل ألا وهو توحيده جلّ وعلا، وإفراده بالعبادة دون غيره، قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، وقد أنزل الله لذلك الكتب وأرسل الرسل، قال تبارك وتعالى: "يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ".

فالله عز وجلّ خلقكم أيها الناس، لعبادته وحده لا شريك له، لا ليتقوى بكم من ضعف، فهو القوي العزيز؛ ولا ليتكثر بكم من قلة فهو الغني الحميد: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد"، وقال تعالى في الحديث القدسي: ""يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً""، "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ".

أيها المؤمنون، إن أساس العبادة التي خلقكم الله من أجلها هو شهادة أن لا إله إلا الله، فلا إله إلا الله كلمة قامت بها السماوات والأرض، ولا إله إلا الله فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولا إله إلا الله دعوة الرسل جميعاً، ولا إله إلا الله كلمة التقوى وشعار الإسلام، ولا إله إلا الله مفتاح الجنة دار السلام.

عباد الله أيها المؤمنون، إن لكلمة التقوى والإخلاص فضائل عديدة، ومناقب كثيرة، فحقيق بمن نصح نفسه وأحب سعادته ونجاته أن يتعرف على هذه الفضائل وتلك المناقب عسى أن يكون من أهل لا إله إلا الله.

فمن فضائل هذه الكلمة المباركة "لا إله إلا الله" أنها أول ما يطالب به العبد ليدخل في دين الإسلام الذي قال الله عنه: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ". ففي قصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له صلى الله عليه وسلم: ""إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"".

عباد الله، إن من فضائل كلمة التقوى والإخلاص أن بها تحصلُ عصمةُ دم العبد ومالِه، ففي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: ""من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل"".

أيها المسلمون، إن من فضائل هذه الكلمة الطيبة، لا إله إلا الله، أنه من لقي الله بها أدخله الجنة، جنة عرضها السماوات والأرض دار السلام، قال صلى الله عليه وسلم: ""أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة"".

ومن فضائلها أنها تحرم على النار من قالها صادقاً مخلصاً، ففي الصحيحين من حديث عتيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ""إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله"".

ومن فضائلها أنها سبب لخروج صاحبها من النار إذا دخلها بتقصير منه وتفريط في حقوق هذه الكلمة وشروطها. قال صلى الله عليه وسلم: "" يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن بُرّةٍ من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرةٍ من خير"".

أيها المؤمنون، إن من فضائل كلمة التقوى أنه من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة، ومن فضائلها أنه لا تحصل شفاعةُ النبي صلى الله عليه وسلم إلا بها، فإن أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم من قال: ""لا إله إلا الله خالصاً من قلبه"".

إن لا إله إلا الله لا يعدلها شيءٌ في المـيزان، ففـي مسند الإمام أحمد بسند جيد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ""إن نوحاً قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله""؛ ولذلك فإن هذه الكلمة المباركة تطيش بسجلات الذنوب وتثقّل ميزان العبد وترفع درجاته يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

إن قول لا إله إلا الله من أعظم أسباب تفريج الكربات، وحل المعضلات وكشف النوازل والنكبات، فهذا نبي الله يونس، لما التقمه الحوت وهو مليم، نادى في الظلمات أن "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" فاستجاب الله له، ونجاه من الغم.

فافزعوا أيها المؤمنون إلى هذه الكلمة المباركة عند حلول الكرب ونزول الضيم. إن ربكم سبحانه وتعالى قد ضرب لهذه الكلمة مثلاً في كتابه ودعاكم لتدبره وتأمله فقال جلّ وعلا: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ"؛ فشبه الله تعالى هذه الكلمة الطيبة، كلمة التوحيد، كلمة لا إله إلا الله، بالشجرة الطيبة ثابتة الأصل، باسقة الفروع، يانعة الثمر، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؛ فلا إله إلا الله إذا ثبتت في قلب العبد أثمرت العملَ الصالح والعلمَ النافع. فجميع العلوم النافعة والأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة إنما هي ثمرة هذه الكلمة المباركة والشجرة الطيبة، فمن ثبتت لا إله إلا الله في قلبه إيماناً وتصديقاً، محبةً وعلماً انقادت جوارحهُ لشرع الله تعالى وحكمه عملاً وتطبيقاً وامتثالاً وتنفيذاً.

فاحرصوا أيها المؤمنون على رعاية هذه الشجرة المباركة وتعاهدِها في كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح، فإن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها وتحفظها.
اللهم احفظ لنا ديننا الذي ارتضيته لنا.

الخطبة الثانية

أما بعد.. فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن معنى هذه الكلمة المباركة، كلمة لا إله إلا الله، التي سمعتم شيئاً من فضائلها، أنه لا معبود بحق إلا الله، فقولك أيها المسلم: لا إله إلا الله هو إقرار بأنه لا يستحق أحدٌ أن يعبد إلا الله تعالى، فكل من عُبد من دونه فهو باطل، فلا يجوز أن تصرف العبادات الظاهرة والباطنة لغير الله تعالى. فمن قال: لا إله إلا الله وأحب غير الله محبة عبادية، أو اعتمد على غير الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار، أو دعا وسأل غير الله تعالى، أو استغاث أو استعان بغير الله تعالى، فيما لا يقدر عليه إلا الله جل ذكرهُ، فقد وقع في الشرك الذي لا يغفر الله لصاحبه: "إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ".

أيها المؤمنون، إن من قال: لا إله إلا الله ثم تقرب للمخلوقين أو المقبورين بالسجود أو بالذبح أو بالنذر لهم أو بغير ذلك من العبادات والقربات، فإنه متوعد بقوله تعالى: "إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ".

فاحذروا أيها المؤمنون الشركَ بالله تعالى، دقيقه وجليله صغيره وكبيره، فإنه ظلم عظيم وإثم كبير خافه إمام الحنفاء إبراهيمُ عليه السلام على نفسه وبنبيه، فقال سائلاً ربه ومولاه: "وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ"؛ وقد خافه النبي صلى الله عليه وسلم على خير القرون، خافه على أصحابه فقال صلى الله عليه وسلم: ""أخوف ما أخافه عليكم الشركُ الأصغر. فقالـوا: وما الشركُ الأصغرُ؟ فقال: الرياء"". اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم ونستغفرك لما لا نعلم.

أيها المؤمنون، إن فضائل لا إله إلا الله ومناقبها لا تحُصل بمجرد قول اللسان بل لا بد من إيمان القلب وعمل الجوارح والأركان وإذا أردت يا عبد الله دليـلاً لذلك فانظـر إلى المنافقين الذين قال الله فيهم: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّار"، فهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار مع أنهم يقولونها بألسنتهم، فإياكم أيها المؤمنون أن تكونوا من الذين جعلوا القرآن عضين، فإنه من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الإيمان بهذه الكلمة لا يتم إلا بقـول وعمـل، قال صلى الله عليه وسلم: ""الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان"" رواه مسلم.

فالله الله أيها الناس، تمسكوا بكلمة التقوى والإيمان، اعرفوا معناها، واستقيموا عليها، وجاهدوا فيها، أحبوا أهلها والداعين لها، واجعلوهم إخوانكم في الدين، ولو كانوا عنكم بعيدين، واكفروا بكل ما يعبد من دون الله، فإنه من يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.

اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا اجعلنا من أهل لا إله إلا الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله.

النبي عليه الصلاة والسلام رائد حقوق الإنسان

جمال الهنداوي

قرون وقرون بعمر الأبد.. والنبي محمد "صلى الله عليه وآله وسلم" يشارك الناس الحياة اليومية المعاشة من أيامهم.. يعاصر الزمن ويتسيد السنين ويبقى الناس يرددون اسمه كل يوم ذاكرين حامدين شاكرين النبي الذي منحهم الشعور بالحرية..

حيوات وأجيال وأمم كاملة تمر والرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم جزء كامل محسوس من حياة الفرد المسلم.. يلهج بذكره وينطق اسمه مرات ومرات في كل غدو وعشية.. يصبح المسلمون على اسمه ويمسون عليه.. ويحتفلون كل عام بمولده ومعراجه وهجرته وحروبه وغزواته.. ويصلون ويسلمون عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا.. ولاءً ووفاءً وعرفاناً لمن حرر الناس من أدران الجهل والتخلف والارتهان..

قرون وقرون وما زالت صدى الرسالة التي جاء بها النبي الأمي، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، تتردد في أرجاء الكون هاتفة بالنداء الذي أعتق الإنسان من الأغلال التي تبعده عن الحق.. معلية كلمة الحرية التي كسرت القيود التي كانت تكبل عقله وتفكيره وصفاء نفسه وتمنعه من الانطلاق بحرية في الحياة من أجل تأمين سعادته واستقلاله وكرامته وحقه في الحياة.. تلك الحرية التي كانت الشرط الأول للإيمان بالله الواحد الأحد.. الرحمن الرحيم الذي خلقنا أحرارا.. وأرسل رسوله ليرفع عنا نير العبودية والخوف والخرافة وعبادة الطاغوت.. تلك الحرية التي سبق بها الإسلام جميع الشرائع والمواثيق التي تنادي بالعدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان..

لقد جاءنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بمبدأ المساواة التامة بين أفراد المجتمع الإنساني على اختلاف انتماءاتهم العرقية والطبقية.. وما بين الذكر والأنثى وهو يتلو قوله سبحانه وتعالى "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".

كما علمنا- عليه الصلاة والسلام- حرية الاعتقاد والرأي، بنقله رسالة الله سبحانه وتعالى "لاأكراه في الدين" وقوله تعالى "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"؛ وأعلى مبدأ أولية العدالة بالصدع بقوله تعالى "واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل". وكذلك دعا إلى حق الناس في المشاركة في الإدارة السياسية وتسيير شؤون الحكم مناديا بقوله تعالى "وامرهم شورى بينهم".

لقد انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم للإنسان الحر.. ودافع عن حق المرأة التي كانت تعد كالسقط، وتوأد وتسود وجوه من يبشر بها.. كما انتصر للعبيد والأرقاء.. وانتصر للمظلومين وكان لهم نوراً اهتدى به وقوي به المستضعفون.. وعزز الرسول صلى الله عليه وسلم الإنسان بسيرته وسلوكياته مكارم الأخلاق بالحث على الصدق والبر والإحسان، والعفو، والكرم، والصبر، والزهد.. ليكون المجتمع المدني الذي شيده بالمدينة المنورة أساسا مكينا للطهر الإنساني في أسمى صوره وأكثرها مثالية..

وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم سباقاً إلى تثبيت دعائم الحرية الدينية، فقد كان كفاحه المرير في بواكير بعثته بمكة المكرمة.. من أجل الدعوة إلى حرية الفرد في خياراته الدينية.. وكان نضاله من أجل انتزاع حرية العقيدة.. وعندما هاجر المسلمون إلى المدينة المنورة، كان أول ما اهتم بإقراره هي وثيقة المدينة التي أسست لمبدأ المواطنة واحترام الحريات الدينية..

إن المسلمين معنيون الآن قبل غيرهم بإبراز الصورة الإنسانية الشاملة للإسلام، كما جاء بها النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.. وكما ناضل وجاهد وجالد من أجلها.. وليس كما يريدنا الطاغوت أن نتعبد.. والتأسي به- عليه الصلاة والسلام- يبدأ من خلال التزام القيم الكبرى التي جاء بها الإسلام.. قيم الحرية والعدالة والشورى والمساواة والتكافل الاجتماعي. والتأكيد على أولية المشترك الإنساني الأشمل الذي تجلى بسنة وممارسات وسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم..

يتوجب علينا كمسلمين أن نكون الانعكاس الذي يقدم تلك السيرة العطرة كنموذج إنساني للعالم قاطبة.. فان القيم التي تعلي من حقوق الإنسان وإن كانت قد ازدهرت وأثمرت خارج حدود وإسهام العالم الإسلامي، فإن جذورها تمتد إلى البقاع الطاهرة التي احتضنت محمداً صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناًً. محمد صلى الله عليه وسلم الذي مكنه الله من الأرض ولكنا نراه يقول لامرأة كانت ترتجف بين يديه هيبةً ووجلاً.. "هوني عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة".

صلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى صحبه المنتجبين وسلم..

السبت، 19 فبراير 2011

القصة التي أبكت النبي عليه الصلاة والسلام!

روى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: جاء جبريل إلى النبي عليه الصلاة والسلام في ساعةٍ ما كان يأتيه فيها متغيّر اللون، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ""مالي أراك متغير اللون""؟ فقال: يا محمد جئتُكَ في الساعة التي أمر الله بمنافخ النار أن ينفخ فيها، ولا ينبغي لمن يعلم أن جهنم حق، وأن النار حق، وأن عذاب القبر حق، وأن عذاب الله أكبر أنْ تقرّ عينه حتى يأمنها.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ""يا جبريل صِف لي جهنم"" قال: نعم، إن الله تعالى لمّا خلق جهنم أوقد عليها ألف سنة فاحْمَرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة فابْيَضّت، ثم أوقد عليها ألف سنة فاسْوَدّت، فهي سوداء مُظلمة لا ينطفئ لهبها ولا جمرها. والذي بعثك بالحق، لو أن خُرْم إبرة فُتِحَ منها لاحترق أهل الدنيا عن آخرهم من حرّها.

والذي بعثك بالحق، لو أن ثوباً من أثواب أهل النار عَلِقَ بين السماء والأرض، لمات جميع أهل الأرض من نَتَنِهَا وحرّها عن آخرهم لما يجدون من حرها..

والذي بعثك بالحق نبياً، لو أن ذراعاً من السلسلة التي ذكرها الله تعالى في كتابه وُضِع على جبلٍ لَذابَ حتى يبلُغ الأرض السابعة. والذي بعثك بالحق نبياً، لو أنّ رجلاً بالمغرب يُعَذّب لاحترق الذي بالمشرق من شدة عذابها. حرّها شديد، وقعرها بعيد، وحليها حديد، وشرابها الحميم والصديد، وثيابها مقطعات النيران، لها سبعة أبواب، لكل باب منهن جزءٌ مقسومٌ من الرجال والنساء.

فقال عليه الصلاة والسلام: ""أهي كأبوابنا هذه؟!"" قال: لا، ولكنها مفتوحة، بعضها أسفل من بعض، من باب إلى باب مسيرة سبعين سنة، كل باب منها أشد حراً من الذي يليه سبعين ضعفاً، يُساق أعداء الله إليها فإذا انتهوا إلى بابها استقبلتهم الزبانية بالأغلال والسلاسل، فتسلك السلسلة في فمه وتخرج من دُبُرِه، وتُغَلّ يده اليسرى إلى عنقه، وتُدخَل يده اليمنى في فؤاده، وتُنزَع من بين كتفيه، وتُشدّ بالسلاسل، ويُقرّن كل آدمي مع شيطان في سلسلة، ويُسحَبُ على وجهه، وتضربه الملائكة بمقامع من حديد، كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أُعيدوا فيها.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ""مَنْ سكّان هذه الأبواب؟!"" فقال: أما الباب الأسفل ففيه المنافقون، ومَن كفر مِن أصحاب المائدة، وآل فرعون، واسمها الهاوية.. والباب الثاني فيه المشركون واسمه الجحيم.. والباب الثالث فيه الصابئون واسمه سَقَر.. والباب الرابع فيه إبليس ومن تَبِعَهُ، والمجوس، واسمه لَظَى.. والباب الخامس فيه اليهود واسمه الحُطَمَة. والباب السادس فيه النصارى واسمه العزيز.

ثم أمسكَ جبريلُ حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام: ""ألا تخبرني من سكان الباب السابع؟""، فقال: فيه أهل الكبائر من أمتك الذين ماتوا ولم يتوبوا. فخَرّ النبي عليه الصلاة والسلام مغشيّاً عليه، فوضع جبريل رأسه على حِجْرِه حتى أفاق، فلما أفاق قال عليه الصلاة والسلام: ""يا جبريل عَظُمَتْ مصيبتي، واشتدّ حزني، أَوَ يدخل أحدٌ من أمتي النار؟؟؟"" قال: نعم، أهل الكبائر من أمتك. ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكى جبريل.

ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزله واحتجب عن الناس، فكان لا يخرج إلا إلى الصلاة يصلي ويدخل ولا يكلم أحداً، يأخذ في الصلاة يبكي ويتضرّع إلى الله تعالى.

فلما كان اليوم الثالث، أقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى وقف بالباب وقال: السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة، هل إلى رسول الله من سبيل؟ فلم يُجبه أحد فتنحّى باكياً..

فأقبل عمر رضي الله عنه فوقف بالباب وقال: السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة، هل إلى رسول الله من سبيل؟ فلم يُجبه أحد فتنحّى يبكي.

فأقبل سلمان الفارسي حتى وقف بالباب وقال: السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة، هل إلى مولاي رسول الله من سبيل؟ فأقبل يبكي مرة، ويقع مرة، ويقوم أخرى حتى أتى بيت فاطمة ووقف بالباب ثم قال: السلام عليك يا ابنة رسول الله، وكان علي رضي الله عنه غائباً، فقال: يا ابنة رسول الله، إنّ رسول الله قد احتجب عن الناس فليس يخرج إلا إلى الصلاة فلا يكلم أحداً ولا يأذن لأحدٍ في الدخول.

فاشتملت فاطمة بعباءة قطوانية وأقبلت حتى وقفت على باب رسول الله ثم سلّمت وقالت: يا رسول الله أنا فاطمة، ورسول الله ساجدٌ يبكي، فرفع رأسه وقال: ""ما بال قرة عيني فاطمة حُجِبَت عني؟ افتحوا لها الباب"".

ففتح لها الباب فدخلت، فلما نظرت إلى رسول الله بكت بكاءً شديداً لما رأت من حاله مُصفرّاً متغيراً قد ذاب لحم وجهه من البكاء والحزن، فقالت: يا رسول الله ما الذي نزل عليك؟! فقال: ""يا فاطمة جاءني جبريل ووصف لي أبواب جهنم، وأخبرني أن في أعلى بابها أهل الكبائر من أمتي، فذلك الذي أبكاني وأحزنني"".

قالت: يا رسول الله كيف يدخلونها؟! قال عليه الصلاة والسلام: ""بلى تسوقهم الملائكة إلى النار، ولا تَسْوَدّ وجوههم، ولا تَزْرَقّ أعينهم، ولا يُخْتَم على أفواههم، ولا يقرّنون مع الشياطين، ولا يوضع عليهم السلاسل والأغلال"".

قالت: يا رسول الله كيف تقودهم الملائكة؟! قال: ""أما الرجال فباللحى، وأما النساء فبالذوائب والنواصي.. فكم من ذي شيبةٍ من أمتي يُقبَضُ على لحيته وهو ينادي: واشَيْبتاه واضعفاه!! وكم من شاب قد قُبض على لحيته، يُساق إلى النار وهو ينادي: واشباباه واحُسن صورتاه!! وكم من امرأة من أمتي قد قُبض على ناصيتها تُقاد إلى النار وهي تنادي: وافضيحتاه واهتك ستراه!!، حتى يُنتهى بهم إلى مالك، فإذا نظر إليهم مالك قال للملائكة: من هؤلاء؟ فما ورد عليّ من الأشقياء أعجب شأناً من هؤلاء، لم تَسْوَدّ وجوههم ولم تَزرقّ أعينهم ولم يُختَم على أفواههم ولم يُقرّنوا مع الشياطين ولم توضع السلاسل والأغلال في أعناقهم!! فيقول الملائكة: هكذا أُمِرنا أن نأتيك بهم على هذه الحالة. فيقول لهم مالك: يا معشر الأشقياء من أنتم؟!

وروي في خبر آخر: أنهم لما قادتهم الملائكة قالوا: وامحمداه!، فلما رأوا مالكاً نسوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من هيبته، فيقول لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن ممن أُنزل علينا القرآن، ونحن ممن يصوم رمضان. فيقول لهم مالك: ما أُنزل القرآن إلا على أمة محمد، فإذا سمعوا اسم محمد صاحوا: نحن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

فيقول لهم مالك: أما كان لكم في القرآن زاجرٌ عن معاصي الله تعالى.. فإذا وقف بهم على شفير جهنم، ونظروا إلى النار وإلى الزبانية قالوا: يا مالك ائذن لنا نبكي على أنفسنا، فيأذن لهم، فيبكون الدموع حتى لم يبق لهم دموع، فيبكون الدم، فيقول مالك: ما أحسن هذا البكاء لو كان في الدنيا، فلو كان في الدنيا من خشية الله ما مسّتكم النار اليوم.

فيقول مالك للزبانية: ألقوهم.. ألقوهم في النار؛ فإذا أُلقوا في النار نادوا بأجمعهم: لا إله إلا الله، فترجع النار عنهم، فيقول مالك: يا نار خذيهم، فتقول: كيف آخذهم وهم يقولون لا إله إلا الله؟ فيقول مالك: نعم، بذلك أمر رب العرش، فتأخذهم، فمنهم من تأخذه إلى قدميه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم من تأخذه إلى حلقه، فإذا أهوت النار إلى وجهه قال مالك: لا تحرقي وجوههم فطالما سجدوا للرحمن في الدنيا، ولا تحرقي قلوبهم فلطالما عطشوا في شهر رمضان. فيبقون ما شاء الله فيها، ويقولون: يا أرحم الراحمين يا حنّان يا منّان.

فإذا أنفذ الله تعالى حكمه قال: يا جبريل ما فعل العاصون من أمة محمد؟ فيقول: اللهم أنت أعلم بهم. فيقول انطلق فانظر ما حالهم، فينطلق جبريل عليه السلام إلى مالك وهو على منبر من نار في وسط جهنم، فإذا نظر مالك إلى جبريل عليه السلام قام تعظيماً له، فيقول له يا جبريل: ما أدخلك هذا الموضع؟ فيقول: ما فَعَلْتَ بالعصابة العاصية من أمة محمد؟ فيقول مالك: ما أسوأ حالهم وأضيَق مكانهم، قد أُحرِقَت أجسامهم، وأُكِلَت لحومهم، وبقِيَت وجوههم وقلوبهم يتلألأ فيها الإيمان.

فيقول جبريل: ارفع الطبق عنهم حتى انظر إليهم. قال: فيأمر مالك الخَزَنَة فيرفعون الطبق عنهم، فإذا نظروا إلى جبريل وإلى حُسن خَلقه، علموا أنه ليس من ملائكة العذاب فيقولون: من هذا العبد الذي لم نر أحداً قط أحسن منه؟ فيقول مالك: هذا جبريل الكريم الذي كان يأتي محمداً بالوحي، فإذا سمعوا ذِكْر محمد صاحوا بأجمعهم: يا جبريل أقرئ محمداً منا السلام، وأخبره أن معاصينا فرّقت بيننا وبينك، وأخبره بسوء حالنا.

فينطلق جبريل حتى يقوم بين يدي الله تعالى، فيقول الله تعالى: كيف رأيت أمة محمد؟ فيقول: يا رب، ما أسوأ حالهم وأضيق مكانهم. فيقول: هل سألوك شيئاً؟ فيقول: يا رب نعم، سألوني أن أُقرئ نبيّهم منهم السلام وأُخبره بسوء حالهم فيقول الله تعالى: انطلق فأخبره.

فينطلق جبريل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو في خيمة من درّة بيضاء لها أربعة آلاف باب، لكل باب مصراعان من ذهب، فيقول: يا محمد. قد جئتك من عند العصابة العصاة الذين يُعذّبون من أمتك في النار، وهم يُقرِئُونك السلام ويقولون ما أسوأ حالنا، وأضيق مكاننا.

فيأتي النبي عليه الصلاة والسلام إلى تحت العرش فيخرّ ساجداً ويثني على الله تعالى ثناءً لم يثنِ عليه أحد مثله.. فيقول الله تعالى: ارفع رأسك، وسَلْ تُعْطَ، واشفع تُشفّع.

فيقول عليه الصلاة والسلام: ""يا رب، الأشقياء من أمتي قد أنفذتَ فيهم حكمك وانتقمت منهم، فشفّعني فيهم"". فيقول الله تعالى: قد شفّعتك فيهم، فَأْتِ النار فأخرِج منها من قال لا إله إلا الله. فينطلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا نظر مالك إلى النبي عليه الصلاة والسلام قام تعظيماً له فيقول عليه الصلاة والسلام: ""يا مالك، ما حال أمتي الأشقياء؟!""، فيقول: ما أسوأ حالهم وأضيق مكانهم.

فيقول محمد صلى الله عليه وسلم: ""افتح الباب وارفع الطبق""، فإذا نظر أصحاب النار إلى محمد صلى الله عليه وسلم صاحوا بأجمعهم فيقولون: يا محمد، أَحْرَقت النار جلودنا وأحرقت أكبادنا، فيُخرجهم جميعاً وقد صاروا فحماً قد أكلتهم النار، فينطلق بهم إلى نهر بباب الجنة يسمى نهر الحيوان، فيغتسلون منه فيخرجون منه شباباً جُرْدَاً مُرْدَاً مُكحّلين وكأنّ وجوههم مثل القمر، مكتوب على جباههم "الجهنّميون عتقاء الرحمن من النار"، فيدخلون الجنة فإذا رأى أهل النار أن المسلمين قد أُخرجوا منها قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين وكنا نخرج من النار، وهو قوله تعالى: "رُبّمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ" "الحجر:2".

اصبروا وصابروا

شيماء نعمان

طالما برهن تراث الإنسانية على أن الحق دائمًا أقوى من كل عتاد الحرب، وأن كلمة الحق أعلى صوتًا من كل الأبواق. ولكن الحق في حاجة إلى من يطالب به ويدعو إليه ويقف من أجله بإصرار وعزيمة. والمؤمن الصادق يعلم أن الجلد والصبر وشدة العزم هي طريقه إلى الله؛ فالصبر على الانصياع لأوامر الله والابتعاد عن معصيته والصبر على الشدائد والبلاء ثم المصابرة على جهاد النفس وإعلاء كلمة الحق هو مفتاح الفوز في الدنيا والآخرة؛ وفقًا لوعده عز وجل "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".

والثبات على الحق يحتاج إلى الجهد والمثابرة فهو لا يناله إلا أصحاب القلوب الجسورة وأصحاب الرسالات والمبادئ في كل عصر. وليس أعظم مثالاً من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأخيار الذين ثبتوا على دينهم وعضوا عليه بالنواجذ بالرغم مما تكبدوه في سبيل ذلك من مشقة وكدح وألم.

والثبات على الحق من أعظم النعم التي يمن الله بها على المؤمن؛ فقد كان دعاء نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".

وبالرغم من مشقة الثبات على الحق، فإن التاريخ القديم والمعاصر يبرهن على أن إيمان الفرد بالقضية التي يدافع عنها وعدالتها هي معمار الثبات عليها والإيمان بالله واللجوء إليه والتوكل عليه هو حجر الأساس.

وقد أكد الله تعالى في كتابه الحكيم على ضرورة تمسك المؤمن بالصبر والمصابرة في دروب حياته ليصل إلى مرتبة الصابرين وينفع نفسه وأمته؛ فيقول عز وجل في سورة آل عمران: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين"، فبدون الصبر والثبات تضيع الحقوق وتصمت الأفواه وتندحر العزائم.

وفي آخر السورة نفسها يتجدد الأمر الإلهي للمؤمنين جليًا واضحًا في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون". فالطريق إلى النجاح في شتى مناحي الحياة يبدأ بالصبر على المعوقات والمصابرة على مواجهة هذه المعوقات وجهادها جهادًا دائبًا دون كلل أو ملل، ثم الاستمرار في العمل الجاد دون تراخٍ أو فتور، وهو ما يسميه أساتذة علم التنمية البشرية بـ"التخطيط للنجاح".

وفي تاريخنا الإسلامي ما لا حصر له من نماذج الصبر والثبات، بدءا من المراحل الأولى للدعوة، مرورًا بالغزوات والفتوحات الكبرى، ولعل الروح التي تنبض حاليًا في عالمنا الإسلامي المعاصر من تجارب ترفض القهر والاستسلام والخنوع وتعلي من قيمة الصبر والمصابرة والثبات لهي بريق ضوء يلمع بالأمل في فجر جديد.

مسجد مرسيليا من الحجر الاول الى الغموض التام

المولد النبوي فرصة لتجديد الصلة بالسنة النبوية

محمد شركي

من غير المقبول أن يزايد منتسب للإسلام مهما كان انتماؤه على غيره من المسلمين في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يلجأ البعض وبذريعة حب الرسول الأعظم- عليه الصلاة والسلام- إلى الاحتفال بطرق مخالفة للسنة النبوية الشريفة.

وما أكثر مظاهر الاحتفال المبتدعة والتي يحاول البعض إيهام العوام والبسطاء من الناس بأنها من صميم الدين. وما أكثر الجهات التي تحاول فرض الوصاية على هذه المناسبة الكريمة، وتستأثر بالاحتفال بها على طريقتها الخاصة مع محاولة ادعاء الحق في ذلك دون غيرها من الجهات وفرضه على الناس عن طريق ركوب كل الوسائل. ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رسول الإنسانية جمعاء التي توحد الله عز وجل، وليس من حق أحد أن يدعي الحق في هذا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم دون غيره من الموحدين.

فالمسلمون في كل أنحاء العالم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحبون الاحتفال بمناسبة مولده الشريف ولكن على ضوء سنته، وليس على ضوء البدع التي ابتدعها المبتدعون من بعده محاولة منهم لتحريف الدين الإسلامي. فما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته الشطحات على إيقاع المدائح ولا على إيقاع الطبول والدفوف أو غيرها من الآلات الموسيقية، وما شرع لهم ترويع الناس بالمفرقعات، ولا شرع لهم بدعة من بدع اللهو واللعب التي ابتدعها المبتدعون من بعده بدعوى الاحتفال بمولده الشريف.

فالاحتفال بمولد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يجب أن يبدأ بالتزام سنته في كل جوانب الحياة. فالذين يدافعون عن اقتناء المفرقعات المسبب للأضرار لأبنائهم بدعوى تحبيب المناسبة لهم وإظهار الفرح بها لا يفكرون أبدا في أمر أبنائهم بالصلاة والمحافظة عليها يوميا، كما يحرصون على اقتناء المفرقعات لهم.

والذين ينشغلون بالمدائح والشطحات والطعام والشراب ويدعون الناس إليها لا يحرصون على أمر هؤلاء الناس بالمحافظة على الصلوات يوميا، وعلى السلوك الإسلامي في كل المعاملات. وإن الذين يحاولون تحويل الاحتفال بالمولد النبوي الشريف إلى مجرد عادات تخدم مصالحهم الدنيوية المكشوفة هم أبعد الناس عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولئن استطاع هؤلاء استدراج الصغار والأغرار والعوام البسطاء إلى مظاهر الاحتفال التافهة وتقديمها على أساس أنها من الدين فإنهم لن يستطيعوا تضليل الراشدين والمثقفين الذين يجعلون من هذه المناسبة فرصة لإحياء السنة النبوية الحقيقية، من خلال الدعوة إلى المشروع الحضاري الإسلامي الذي ينطلق من بيوت أذن الله عز وجل أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ويتلى فيها كتابه المتضمن لتعاليمه التي توجه المسلمين في كل مجالات الحياة.

فالمحتفل حقا بمناسبة المولد النبوي هو الذي يقصد بيت الله عز وجل يوميا ويحافظ على الصلوات الخمس ونوافلها، وهي صلوات تنهاه عن الفحشاء والمنكر مهما كانت طبيعة الفحش والمنكر، وهو الذي يفكر في خدمة هذا الدين بعمل يعود بالنفع على الأمة من قبيل المساهمة في المشاريع الخيرية سواء التي تخدم الفئات المحرومة من أيتام وأرامل، وعجزة ومشردين، أو التي تخدم المسلمين المضطهدين في مشارق الأرض ومغاربها، أو التي تخدم رقي الأمة الإسلامية في كل المجالات والآفاق.

أما الذين يكتفون بالاحتفالات الفارغة من قبيل الشطحات التي تقوم مقام التنويم المغنطيسي للعوام وصرفهم عن المشروع الحضاري الإسلامي العظيم، أو من قبيل العبث واللهو الذي قد يتسبب في أضرار كما هو شأن المفرقعات أو غير ذلك من مظاهر الاحتفالات التافهة التي لا تشرف الأمة الإسلامية العظيمة، أمة العلم والعمل والحضارة البانية، فهم مجرد مهرجين تافهين تتبرأ منهم مناسبة المولد الشريف وتكشف سنة صاحب المناسبة عليه السلام زيف ابتداعهم عندما تعرض مظاهر احتفالهم على الكتاب والسنة فتبدو غريبة عن دين الإسلام.

وإلى جانب احتفالات البدع التي تقف وراءها جهات مغرضة لها مصالح دنيوية مكشوفة نجد فئات من المتعصبين التكفيريين الذين يظنون بأنفسهم العلم وبغيرهم الجهل ولا يترددون في تكفير غيرهم، وهم يحاولون تجاهل هذه المناسبة تجاهلا تاما بدعوى أن الاحتفال بها ولو كان من خلال الاجتماع في بيوت الله عز وجل لاستعراض السيرة النبوية الشريفة بغرض الاقتداء بها مجرد بدعة دون التمييز بين التعريف الشرعي للبدعة، وهدف هذه الفئات المتعصبة هو تبرير اتجاهاتها التكفيرية، ومحاولة إضفاء الشرعية عليها، واستغلال بعض الشباب المندفع المحدود المعرفة وربما المهزوز نفسيا لتمريرها، والذي قد يشاهد بعضهم وهم يقومون بأعمال استفزازية في بيوت الله عز وجل عندما يتلى كتابه جماعة أو يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم جماعة، إذ ينتفضون ناظرين إلى المصلين بازدراء وسخرية وهم يحرصون على التميز عن غيرهم من الناس بلحى مبالغة في الطول والشعث وغير مرجلة وقمصان قصيرة فوقها بذلات جلدية أو بذلات شبه عسكرية، مع أحذية رياضية، وهو هندام غريب ومثير للسخرية، إذ يخلطون بين ما هو أصيل وما هو دخيل ولا علاقة له بما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومع ذلك يتبجح هؤلاء بأنهم أعلم الناس بالسنة، وليتهم تعلموا من السنة النبوية الشريفة شيئا واحدا وهو حسن الخلق وحسن معاملة الناس وكف الألسنة عنهم، إذ تبدو أخلاقهم أحيانا أقبح من أخلاق أهل الفجور والفسوق.

وأخيرا نشير إلى أنه ليس من حق أحد المزايدة على محبي رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء من المبتدعين المشعوذين الذين يحولون مناسبة المولد إلى مجرد فلكلور، أو من التكفيريين المتزمتين الذين يرغبون في طمس معالم المناسبة، وكل منهم إنما يخدم أطروحته متذرعا بالدين، والدين براء من المبتدعين ومن التكفيريين على حد سواء.

نظرة شرعية في الأحداث الراهنة

علوي بن عبد القادر السقاف

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد:

فإن الأمة العربية تمر هذه الأيام بأحداث عصيبة وعسيرة؛ تنبئ عن تغيرٍ كبيرٍ ربما طال بعضًا من الأنظمة التي جثمت على صدور شعوبها عقوداً من الزمن، ويتابع الناس أحداث تونس ومصر بكل اهتمام وشغف، وقلوبهم معلقة بآمال المستقبل المجهول، وما يدري المرء هل ستلحق دولٌ أخرى بأختيها أم لا؟

وفي خضم هذه الأحداث تدور أسئلةٌ كثيرةٌ في أذهان كثيرٍ من الشباب، ويجري نقاشٌ عريضٌ عبر مجالسهم، ونواديهم، وعبر التقنيات الحديثة من مجموعات بريدية، ومواقع اجتماعية، كالموقع الشهير "الفيسبوك" وغيره، ويتساءلون عن مشروعية الاحتجاجات الجماعية وجدواها، وهل هي صورة من صور الخروج على الحاكم؟ وما الموقف الصحيح منها؟ ولماذا لا نرى بعض الرموز الدعوية تشارك فيها وتقود المسيرة؟ وهل هذا خطأ منهم أو صواب؟ وهل سيجني ثمرتها الإسلاميون أم سيقطفها غيرهم؟ وغيرها من الإشكالات والاستفسارات التي يبحثون لها عن إجابات؛ وللأسف لا يجدون!

فأقول وبالله أستعين:

أما الخروج على الحاكم المسلم الذي يحكم بشرع الله، وقد أقام في المسلمين الصلاة، ولم يروا منه كفراً بواحاً، فمنهج أهل السنة والجماعة واضح في تحريمه، ولو جار أو ظلم، لحديث: ""ما أقاموا فيكم الصلاة"" رواه مسلم، ولحديث: ""إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان"" رواه الشيخان، وقد كان هناك خلاف بين السلف في حكم الخروج على الحاكم الجائر، ثم استقر أمرهم على ما سبق، نص على ذلك القاضي عياض والنووي كما في شرحه لمسلم "11/433"، وابن تيمية في منهاج السنة "4/529"، وابن حجر في تهذيب التهذيب "1/399"، وغيرهم، وهو الحق إن شاء الله، وكأنه إجماع منهم.

وأما من نحَّى شريعة الله ولم يحكم بها، وأظهر الكفر البواح؛ فقد أجاز العلماء الخروج عليه بشرط القدرة حتى لا تُسفك دماءٌ معصومة، وتزهق أرواحٌ بريئة، قال الإمام ابن باز رحمه الله: "لا يجوز الخروج على السلطان إلا بشرطين، أحدهما: وجود كفر بواح عندهم من الله فيه برهان. والشرط الثاني: القدرة على إزالة الحاكم إزالة لا يترتب عليها شرٌ أكبر منه" "مجموع فتاوى ابن باز" "8/206"

وأعني بالخروج هنا: الخروج بالقوة بحيث يتقاتل الطرفان، ويحمل كلٌّ منهما السلاح في وجه الآخر.

وقد عانت الأمة الإسلامية كثيراً من حركات الخروج هذه، حيث ذهبت فيها أرواحٌ كثيرة دون طائل، لكن تسمية المطالبات بالحقوق الدينية والدنيوية- ولو كانت جماعية- خروجاً فيه نظر، وقياس الوفيات التي قد تحدث فيها سواء بسب الازدحام والاختناق أو بسبب الاعتداء عليهم؛ قياس ذلك على الدماء التي تُسفك عند الخروج المسلَّح قياسٌ مع الفارق، فشتان بين هذا وبين الهرج والمرج الذي يحصل عند الخروج بالسيف كما حصل في ثورة ابن الأشعث وغيرها.

والتاريخ الإسلامي حافلٌ بمثل هذا النوع من الخروج بكل أسفٍ، لكن هذا النوع من المطالبات الجماعية السلمية حديثة على العالم الإسلامي، ولا يُعرف لها مثيل في تاريخ المسلمين، والمستجدات العصرية في وسائل التغيير والتعبير لا ينبغي إغفالها وإهمالها، طالما لم يرد نصٌّ بإلغائها وإبطالها، ولعلَّها لا تخرج عن نطاق "المصالح المرسلة"، وقاعدة: "الوسائل لها أحكام المقاصد". ووجود بعض المفاسد عند استخدام مثل هذه الوسائل، ليس قاطعاً على حرمتها، فإن هذه المفاسد قد تسوغ مقابل دفع مفاسد أعظم منها: عملاً بقاعدة: "جواز ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما"، فشريعة الله قائمة على مراعاة مصالح العباد. والمهم الآن هو القول بأن مطالبة الإنسان بحقوقه الدينية والدنيوية مطالبة مشروعة في أصلها، ما لم يُرتكب فيها محرم كإتلاف الأموال وإزهاق الأنفس، وخاصة إذا كان هذا الحاكم مستبداً ظالماً ناهباً لخيرات الأمة، يسجن ويقتل منهم المئات بل الآلاف.

وتتأكد هذه المشروعية إذا كان -مع منعهم من حقوقهم الدنيوية- يمنعهم من حقوقهم الدينية، ويجاهر بمحاربة الدين صباح مساء ويعلن أن نظامه نظامٌ علماني، ويفضل القانون الوضعي على شريعة رب العالمين.

لكن لمـَّا كانت هذه المطالبات الجماعية يشترك فيها عامة الناس، المثقفون منهم والغوغائيون، وقد تحصل فيها فوضى وشغب، ومنكرات عديدة: كتبرجٍ سافرٍ من بعض النساء -هداهن الله- واختلاطٍ مشين، واحتكاكٍ بالرجال بسبب الزحام، وصوت موسيقى في بعض هذه التجمعات، ورفع راياتٍ عُميَّةٍ وشعاراتٍ جاهلية، وربما شارك بعضَها أصحابُ أحزابٍ علمانية وأتباع دياناتٍ أخرى، إلى غير ذلك؛ فإن مشاركة العلماء وطلاب العلم الكبار ورموز الدعوة وقادتها، قد تتعذر حينئذٍ، ولا تلزمهم، ويكفي منهم التأييد العام بالبيانات والكلمات والخطب مع توجيه العامة نحو ما يحفظ على البلاد أمنها وممتلكاتها، وعدم ارتكاب محظورات في أثناء هذه المطالبات.

كما أن سكوتهم فضلاً عن معارضتهم لها، قد يفقد ثقة الناس فيهم، ويتسبب في انفضاضهم عنهم، وربما يتجهون إلى أصحاب الدعوات الباطلة؛ لأنهم سيرون أنهم هم وحدهم الذين وقفوا معهم للمطالبة بحقوقهم المشروعة.

ولا شك أن غياب العلماء والدعاة حضوراً أو توجيهاً وانزواءهم في الزوايا فيه مفسدة

ومن يثني الأصاغرَ عن مرادٍ ** إذا جلس الأكابرُ في الزوايا

وقد يستشكل بعض الناس مشروعية هذه المطالبة مع ما قد يحصل معها من فوضى وشغب، وربما تُسفك بسببها دماء، ولا شك أن هذه مفاسد لكنها قد تُحتمل مقابل المصالح العظيمة التي تحصل من تغيير أحوال الشعوب الدينية والدنيوية إلى حال أحسن، وهنا تتفاوت أنظار العلماء وتختلف اجتهاداتهم في تقدير المصلحة وتوقع لمن تكون الغلبة، وعلماء كل بلد أعرف بحاله، مع التأكيد على عدم جواز ارتكاب أي من هذه المفاسد، وأن تكون المطالب سلمية بالشروط والأحوال المذكورة آنفاً.

وتظل هذه المسألة من مسائل الاجتهاد الدقيقة، التي تختلف في توصيفها الأنظار، ويتردد المرء فيها ويحار، فلا ينبغي أن تكون سبباً للفرقة وإلقاء التهم وإساءة الظن.

وينبغي أن يُعلم أن ما يصح أو يصلح أن يقال في بلد لا يصح ولا يصلح أن يقال في بلد آخر، إذا كانت مفسدة المطالبة فيه أعظم من السكوت عنها.

فمثلاً بلدٌ كاليمن، أهله مسلَّحون، وفيه قبائل متناحرة، وتنظيمات بدعيَّة مسلحة لها "أجندات" خاصة، ومطالبات انفصالية في أجزاء منه، وفوضى عارمة، قد لا يكون من المصلحة قيام ثورات فيه، لمظنة وقوع هرج ومرْج وفساد عريض، وقد يستثمر مثل هذه الثورات أصحاب الفرق الضالة المنظمة المسلحة المدعومة من الخارج في حين أن أهل السنة فيه مختلفون متناحرون، وقل مثل ذلك في بلد نسبة أهل السنة فيه أقل من أهل البدع ولو ظهرت فيه مثل هذه الثورات لكان أهل البدع أقرب للوصول إلى السلطة من أهل السنة، فلا شك أنه في مثل هذه الحالات التي يغلب على الظن أن تؤدي المطالبات الجماعية فيها إلى وضع وحالٍ أسوأ مما هو عليه، أنها لا تجوز، لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وجاءت لتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع من كتبه وفتاويه، وخلاصة الأمر أن هذه المطالبات الجماعية تختلف من بلد إلى آخر، والحكم عليها خاضعٌ للنظر في المصالح والمفاسد، وهي بهذا تُعد من المصالح المرسلة التي لم يشهد لها الشرع بإبطال ولا باعتبار معين.

وهنا يتساءل بعض الناس، ما الموقف الصحيح مما يجري على الساحة اليوم؟

والجواب: لا شك أن زوال طاغية محارب لدين الله مما يثلج صدور المؤمنين لا سيما إذا لم يُتيقن مجيء من هو أسوأ منه، لأن الفرح إنما يكون بزواله ولا أحدَ يعلم الغيب، ولا بمن سيأتي بعده. وقد فرح المسلمون بموت الحجاج بن يوسف الثقفي، ونقلت لنا كتب التاريخ سجود الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز شكراً لله على موته، ولما أُخبر إبراهيم النخعي بموته بكى من الفرح، ولما بُشِّر طاووس بموته فرح وتلا قول الله تعالى: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" وما كانوا يدرون من يحكمهم بعده.

وفي عالمنا المعاصر فرح المسلمون والعلماء بزوال الاستعمار، وحُقَّ لهم ذلك، بل شارك بعض العلماء في الثورات التي أخرجته من بلدان المسلمين رغم أنه خَلَفَهم بعد ذلك في بعض الدول من هو أسوأ منه، فهذا الفرح والدعاء بزوال كل محارب للدين هو أقل ما يجب على العبد المسلم المعظِّم لشرع الله؛ إذْ رفعُ الظلم وإقامةُ العدل مقصودٌ لذاته في الشريعة الإسلامية، وفي الفِطَر السوية، والعقول السليمة. أما المشاركة فقد سبق القول أنها تخضع للمصالح والمفاسد يقدرها علماء كل بلد.

والقول بأن تأييد ذهاب أمثال هؤلاء فيه إعانة على من سيأتي بعدهم من أهل السوء، قولٌ صحيح، لكن هاهنا ثلاثة أمور ينبغي التفطن لها:

أولاً: أن زوال أمثال هؤلاء مقصود لذاته كما سبق بيانه.

ثانياً: أن بقاءهم متيقن في استمرار الفساد في حين مجيء غيرهم مظنة أن يكون أفضل منه، وزوال مفسدة متيقنة أولى من بقائها خشية من مفسدة مظنونة، وإنما يُمنع من زوال المفسدة إذا كانت تؤدي إلى مفسدة أعظم منها كما سبق بيانه.

ثالثاً: أنه مما لا شك فيه أن الأمة إذا تخلصت من أمثال هؤلاء أنها ستعيش عقب ذلك فترة من الزمن تستعيد فيها حقوقها الدينية والدنيوية لأن كل من سيأتي بعدهم أياً كان سيحسب لمثل هذه المواقف ألف حساب، وهذا وحده مصلحة غالبة الظن.

ويتساءل آخرون: لماذا لا يستثمر الإسلاميون هذه الأوضاع؟

والجواب: إن كان المقصود بالاستثمار المشاركة في السلطة فلا أظن أنهم في حالٍ تمكنهم من ذلك "والمراد بالإسلاميين هنا أعداء الديمقراطية". أما إن كان المقصود المشاركة في اختيار الأصلح أو الأقل سوءًا فهذا ممكن مع كثير من الحرج. لكن واجب الوقت الآن هو استثمار الحدث بالقرب من الناس وتوجيههم، وتسجيل مواقف تدفع بدعوتهم إلى الأمام بعد هدوء العاصفة.

وختاماً: فإنَّ على عامة المسلمين في مثل هذه الأوضاع الاسترشاد بالعلماء الربانين والدعاة الموثوقين، والصدور عن رأيهم فيما يشكل عليهم، وعلى العلماء والدعاة تقدير المصالح والمفاسد وفق المنهج الشرعي، مع التحلي بالرويَّة والأناة والحلم في مثل هذه المواقف، وألا يتسرعوا في اتخاذ المواقف إقداماً أو إحجاماً، وأن يجعلوا أمرهم شورى بينهم.

أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يعصمنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يولي على المسلمين خيارهم، ويدفع عنهم شرارهم، وأن يوحد صفوفهم، ويجمع كلمتهم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وسائل الإصلاح في قصه موسى

د. غانم علوان الجميلي

تعتبر قصة موسى عليه السلام والأحداث التي واجهته في تبليغ رسالته إلى بني إسرائيل من أهم المواضيع التي عالجها القرآن الكريم، حتى يكاد يوصف بأنه قصة موسى. وهي قصة تناولها القرآن من زوايا مختلفة وبأساليب متنوعة عالجت مواضيع تربوية مختلفة على درجة كبيرة من الأهمية مثل أصول العقيدة وآثارها في الحياة العملية، والتي من أهمها مواجهة الظلم والفساد ووسائل التغيير والإصلاح الاجتماعي. وهذه قضية ذات أهمية بالغة دائما، لكنها اليوم أكثر أهمية، مما يستدعي الوقوف عند القصة وتأمل ما فيها من الدروس والعبر، خصوصا تلك التي يمكن أن تعيننا في إصلاح الأوضاع التي نمر بها والتي نتج عنها غياب الأمن وانتشار العنف، فلا تكاد تخلو بقعة من بقاع الأرض من صراعات دموية ونزاعات مسلحة أتت على كل شيء حتى أحرقت الأخضر واليابس.

وهذا يجري في أمة تعتبر القتل من أكبر الكبائر، وتقيم للمال والممتلكات حرمتها، ويتدارس أبناؤها حديث المرأة العابدة التي دخلت النار في قطة حبستها حتى ماتت. لكن البعض اليوم يبرر القتل والعنف بشتى المبررات ومنها مبررات الإصلاح، الذي هو حاجة من أهم احتياجات الأمم، لأنه الدالة التي تميز بين الأمم الحية التي تتغير مع متطلبات عصرها، تلك الميتة التي فاتها زمانها وبقيت جامدة مثل الصخور في واد مهجور. من أجل ذلك كانت الحاجة كبيرة إلى أن تدارس سبل تغيير الواقع ومواجهة لغط الأعداء الذين وجدوا من هذه القضية نقطة انطلاق لهجمة شرسة تحاول صبغ ديننا الحنيف بما ليس فيه، مستغلة جهل بعض أبنائه واندفاعاتهم غير المنضبطة.

لقد شاءت الإرادة الربانية أن ينشأ موسى في بيت فرعون، ولعل الحكمة في ذلك إعطاؤه الفرصة لكي يتعلم أساليب القيادة في أعلى مستوياتها، وهذه ليست متوفرة لبني إسرائيل في مصر آنذاك الذين كانوا يرزحون تحت قيود الرق والاضطهاد، كما أنها وفرت لموسى الاطلاع ومن موقع القرار على الواقع المرير الذي تعيشه الأمة والتعرف على الظلم والفساد الواقع على بني إسرائيل خاصة وشعب مصر عامة من جراء حكم بلغ في الطغيان مبلغا لم يسبقه أحد من قبل ولا من بعد.
هذه المعرفة، بلا شك ولدت عند موسى الرغبة القوية في التغيير والإصلاح، أو على الأقل القيام بأي عمل من شأنه أن يخرج بني إسرائيل مما هم فيه ويغير واقعهم إلى ما هو أفضل. فما الذي قام به موسى وما هي الوسائل التي لجأ إليها لتحقيق هدفه؟ وكيف كانت النتائج؟

كانت الوسيلة الأولى التي لجأ إليها موسى هي مواجهة الظلم بالعنف، وهي ردة فعل بدائية غريزية عند الإنسان، خصوصا أن الله وهب موسى عليه السلام قوة في الجسم، كما أنه تعلم من ملازمة فرعون أن القوة والعنف هي الخيار الأول في مواجهة العديد من المشكلات، فهو بلا شك يدرك أن فرعون لما علم بأن الشخص الذي يقود بني إسرائيل نحو الخلاص سوف يولد في العام الذي ولد فيه موسى، كان الحل الذي اختاره هو العنف بأقسى صوره، وهو قتل جميع الأطفال الذكور الذين يولدون لبني إسرائيل في تلك السنة.

ولذلك كان العنف هو الوسيلة التي لجأ إليها موسى في أول اختبار له. "وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ" "القصص: 15- 17". فماذا كانت النتيجة؟

أيقن موسى بفطرته السليمة أن القتل وإراقة الدماء ليست الوسيلة الصالحة لإحداث التغيير الاجتماعي المطلوب، لذلك وصفها بأنها "من عمل الشيطان"، ثم إنه لجأ إلى الله طالبا المغفرة، وأخيرا عاهد الله على أن يكون ناصرا للحق والعدل وأن لا يكون ظهيرا للمجرمين.

أما عن القضية الأساسية التي كان موسى يسعى من أجلها، وهي الإصلاح، ففي الحقيقة أن قتل الرجل المسكين لم يغير شيئاً من الواقع، فالظلم بقي كما هو والعبودية المفروضة على بني إسرائيل بقيت ولم تتغير، اللهم إلا أن موسى أصبح طريداً ومطلوبا في قضية قتل. لكن موسى، ومع إقراره بخطأ العنف ووصفه له بأنه من عمل الشيطان إلا أنه لم يكن يعرف وسيلة غيره للإصلاح، وذلك أنه عندما واجه نفس الموقف في اليوم التالي ومن نفس الشخص الذي استغاثه بالأمس همّ موسى بأن يبطش به كما فعل بالأمس. لكن الحقيقة التي واجهت موسى هي: "فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ" "القصص: 19". لقد كان كلام المصري واضحاً وهو أن موسى الذي يريد أن يكون من المصلحين يستخدم نفس وسائل المتجبرين في الأرض الذين ينتقدهم ويسعى إلى تغييرهم.

إن هذه القضية التي تثيرها الآيات مسألة مهمة وأصل من أصول ديننا وهي ارتباط الوسائل بالغايات. فالذي يريد الإصلاح يجب أن يسلك وسائل المصلحين وهي مختلفة تماما عن وسائل الجبارين الذين يلجؤون إلى العنف في مواجهة ما يلاقون من مواقف، ذلك أن الوسائل تؤدي إلى غايات محددة ومن لجأ إلى ذات الوسيلة وصل إلى نفس الغاية بغض النظر عن صلاح النوايا أو فسادها. والآية واضحة كل الوضوح "إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض"، ولذلك جاءت بلسان المخاطب من المصري إلى موسى قائلة بأن هذه الوسيلة التي اتخذتها لنفسك، وهي القتل والانتقام، لن تؤدي بك إلا إلى نتيجة واحدة وهي التجبر وسوف تصبح جبارا مثل فرعون والجبابرة الذين تدعي محاربتهم. وكانت النتيجة أن وسيلة العنف فشلت في تحقيق الهدف المطلوب، وهو الإصلاح، لا بل على العكس ربما أبعدته عن ذلك كثيرا إذ جعلت منه طريدا مطلوبا مهددا، فلم يجد سبيلا إلا اللجوء إلى مدين هربا بنفسه، تاركا مهمة الإصلاح وراءه.

وكان أول عمل قام به في مدين، "وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ" "القصص:23- 24". والعمل الذي قام به موسى بسيط في ظاهره ولا يمت بصلة إلى مهمته الإصلاحية، لكن هذا العمل البسيط، وهو مساعدة امرأتين كانتا تحاولان الوصول إلى الماء من دون جدوى، يحول بينهما وبينه غياب النظام الذي يمنح الضعيف فرصة متكافئة مع القوي ويحوّل حياة البشر إلى فوضى تحكمها شريعة الغاب التي لا حظ فيها للضعيف وكل الغنائم للأقوياء.

وأمام هذا الموقف فقد كان بإمكان موسى أن يقف وأن يلقي خطبة عصماء تتحدث عن أهمية المساواة الاجتماعية، أو ضرورة إنصاف المرأة في المجتمع، لكنه بدلا من ذلك كله آثر أن يعمل شيئاً بسيطاً، وهو القيام بسقي القطيع، ثم تولى بعد ذلك إلى الظل داعيا الله أن ينزل عليه الخير. لكن موسى لم يكن ليعلم أن هذا العمل الإنساني الذي قام به كان بمثابة المفتاح الذي فتح عليه أبواب الخير التي كان ينشدها وجلب له العديد من الثمار التي غيرت حياته تماماً وبطرق لم يكن يحلم بها، ومنها اتصاله بنبي الله شعيب الذي جاء في الوقت الذي هو بأمس الحاجة إلى مصاحبته والتعلم منه وإزالة ما بقي من آثار العيش في قصر فرعون، ثم إن هذا العمل جعله يتعرف على المرأة الصالحة الحكيمة ذات النسب والتربية التي أصبحت زوجته ورفيقة دربه، وكان من ثمار ذلك العمل التطوعي أنه وفر له الملجأ الآمن الذي يحتاجه، كما وفر له العيش الكريم مدة عشر سنين في انتظار مهمته القادمة.

لقد كانت السنين العشر التي قضاها موسى عليه السلام في مدين فترة تأمل وتدبر وتعلم، ولا شك أن موسى تغير كثيرا، فلم يعد ذلك القوي المعتد بقوته الجسدية الذي يعتقد بأن القوة هي الحل لكل المشكلات كما تعلم في بيت فرعون. وللتدليل على التغيير الكبير الذي حصل له، فإنه عندما سار بأهله وجاءت اللحظة الحاسمة في وادي الطور وكلمه الله وأمره بأن يواجه الطاغوت، لم يطلب موسى عليه السلام من ربه مددا من القوة المادية من سلاح وجنود، وإنما طلب العون في توضيح الرسالة بأن يشد عضده بأخيه هارون لأنه أفصح منه لساناً وأقدر على توضيح الرسالة.

لقد أدرك بعد تلك السنوات أن الحجة هي سلاح الحق الأقوى، وإن قوة الحق ذاتية لا تحتاج إلى إسناد، وأن الباطل هو الذي بحاجة إلى العنف والقتل وإسالة الدماء لأنه ضعيف في داخله، وإذا لجأ أصحاب الحق إلى العنف، فإن ذلك من شأنه أن يزيل الفوارق بينهم وبين غيرهم.

وحدة الصف ضرورة

محمد بن عبدالله الدويش

يتفق العقلاء من الناس على أن الاجتماع والائتلاف مطلب ضروري لا غنى عنه لأمة تريد الفلاح. وقد جاء الشرع بالتأكيد على هذا الأصل ورعايته، ولكن المواقف والأحداث تعصف بالناس، وتحوج إلى التأكيد على هذه المعاني والوصية بها..

وثمة أمور بها تتضح أهمية وحدة الصف والحاجة إليها:

- الأمر الأول: نصوص القرآن الكريم: جاء التأكيد في القرآن الكريم على مراعاة هذا الأصل، ومن ذلك قوله عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" "آل عمران: 102- 103".

وقال عز وجل: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْـجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" "هود: 118- 119".

روى ابن جرير عـن الحسن في قوله تعالى: "وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" "وأما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافاً يضرهم". وروى فيها عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "خلقهم فريقين: فريقاً يرحم فلا يختلف، وفريقاً لا يرحم يختلف؛ وذلك قوله: فمنهم شقي وسعيد".

- الأمر الثاني: أن هذا مما بعث الله الأنبياء به: كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم دعاة لوحدة الصف وجمع الكلمة، قال الإمام البغوي: "بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة".

وقد اختلف الأنبياء من قبل في الرأي، فاختلف موسى وهارن: "قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي، قَالَ يَا بْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي" "طه: 92- 94". ولو وقع مثل هذا الأمر في عصرنا لوجدت من يتهم مثل هارون بأنه سكت عن إنكار الشرك الأكبر، وأن المسألة خلل في الاعتقاد وانحراف في المنهج..إلخ. وبغض النظر عن الأصوب من الاجتهادين فالخلاف حصل، وعذر كل منهما الآخر.

كما اختلف الخضر وموسى، واختلف سليمان وداود: "وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْـجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ" "الأنبياء: 78- 79"، واختلفا عليهما السلام في شأن المرأتين اللتين اختصمتا في الابن، ولم يكن هذا الخلاف موجباً للفرقة والاختلاف. واختلفت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في شأن قاتل المائة حين مات بين القريتين..

- الأمر الثالث: نصوص السنة: لقد تكررت الوصية في السنة بالاعتناء بالاجتماع ووحدة الصف، وتكرر النهي عن التفرق والاختلاف، ومما ورد في ذلك: عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا. ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".

وعن الحارث الأشعري- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها... الحديث وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا آمركم بخمسٍ اللهُ أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة؛ فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يرجع ...".

وعن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: خطبنا عمر بالجابية فقال يا أيها الناس! إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، فقال: "أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يُستحلف، ويشهد الشاهد ولا يُستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن". وعن سلمان الفارسي- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البركة في ثلاثة: في الجماعة، والثريد، والسحور".

- الأمر الرابع: واقع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لقد كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اعتناء بالغ بهذا الأمر، وكان الخلاف في الرأي يحصل بينهم، ومع ذلك كانت النفوس صافية نقية.

نقل الحافظ في الفتح عن القرطبي قوله: "مَنْ تَأَمَّلَ مَا دَار بَيْنَ أَبِي بَكْر وَعَلِيٍّ مِنْ الْمُعَاتَبَةِ وَمِنْ الاعْتِذَارِ وَمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ مِنْ الإنْصَافِ عَرَفَ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَعْتَرِفُ بِفَضْلِ الآخَرِ، وَأَنَّ قُلُوبَهُمْ كَانَتْ مُتَّفِقَة عَلَى الاحْتِرَام وَالْمَحَبَّة، وَإِنْ كَانَ الطَّبْع الْبَشَرِيّ قَدْ يَغْلِب أَحْيَانًا لَكِنَّ الدِّيَانَة تَرُدُّ ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ".

عن عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة- رضي الله عنها- أسألها عن شيء فقالت: ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئاً، إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به".

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: ذهبت أسب حسان عند عائشة- رضي الله عنه- فقالت: "لا تسبه؛ فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وها هو ابن عباس- رضي الله عنه- يثني على ابن الزبير رغم ما كان بينهما. قال ابن أبي مليكة: وكان بينهما شيء، فغدوت على ابن عباس فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتحل حرم الله؟ فقال: معاذ الله! إن الله كتب ابن الزبير وبني أمية محلين، وإني والله لا أحله أبداً، قال: قال الناس بايع لابن الزبير، فقلت: وأين بهذا الأمر عنه؟ أما أبوه فحواري النبي صلى الله عليه وسلم- يريد الزبير- وأما جده فصاحب الغار- يريد أبا بكر- وأمه فذات النطاق- يريد أسماء- وأما خالته فأم المؤمنين- يريد عائشة- وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم- يريد خديجة- وأما عمة النبي صلى الله عليه وسلم فجدته- يريد صفية- ثم عفيف في الإسلام، قارئ للقرآن".

وفي حديث الإفك تعتذر عائشة- رضي الله عنها- عن سعد ابن عبادة فتقول: "فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية".

وقد خالف ابن مسعود- رضي الله عنه- عمر بن الخطاب في مسائل بلغت المائة- كما ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين- ومع ذلك فحين أتى ابن مسعود اثنان أحدهما قرأ على عمر، والآخر قرأ على غيره، فقال الذي قرأ على عمر: أقرأنيها عمر ابن الخطاب، فأجهش ابن مسعود بالبكاء حتى بلَّ الحصى بدموعه، وقال: اقرأْ كما أقرأك عمر؛ فإنه كان للإسلام حصناً حصيناً، يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما أصيب عمر انثلم الحصن. وقال عنه عمر- رضي الله عنه- قولته المشهورة: "كنيف مُلِئَ علماً".

إنها النفوس التي صفت وتسامت على حظوظها، فلم يجد الهوى بينهم مكاناً، وحين يحصل بينهم ما يحصل بين البشر لا يمنعهم ذلك من العدل، ولا يقودهم إلى تتبع الزلات وملاحقة العثرات.

- الأمر الخامس: الاجتماع من سمات أهل السنة وصفاتهم: من سمات أهل السنة الاجتماع والائتلاف، وهم من أشد الناس حرصاً عليه ودعوة له، كيف لا وهم الجماعة وهم السواد الأعظم. قال الطحاوي رحمه الله: "ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً".

قال النووي حول حديث: "إن الله يرضى لكم ثلاثا": "وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تفرقوا" فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتآلف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: "والخير كل الخير في اتباع السلف الصالح والاستكثار من معرفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفقه فيه، والاعتصام بحبل الله، وملازمة ما يدعو إلى الجماعة والألفة، ومجانبة ما يدعـو إلى الخلاف والفرقة، إلا أن يكون أمراً بيناً قد أمر الله ورسوله فيه بأمر من المجانبة فعلى الرأس والعين، وأما إذا اشتبه الأمر: هل هذا القول أو الفعل مما يعاقب صاحبه عليه أو ما لا يعاقب؟ فالواجب ترك العقوبة".

- الأمر السادس: مصالح الاجتماع لا تقارن بمفاسد الفرقة: ثمة طائفة ممن يثيرون الفرقة يدفعهم لذلك الحرص والاجتهاد الخاطئ، ويسعون إلى تحقيق مصالح من تصحيح ما يعتقدون أن الآخرين أخطأوا وتجاوزوا فيه، لكن يغيب عنهم أن مصالح الاجتماع لا تقارن بالمفاسد الناشئة عن الافتراق والاختلاف.

عن النعمان بن بشير- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التحدث بنعمة الله شكر وتركها كفـر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والجماعة بركة والفرقة عذاب".

وقال ابن مسعود- رضي الله عنه-: "يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة؛ فإنهما السبيل في الأصل إلى حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة".

وأشار إلى هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- فقال: "ولا سيما إذا آل الأمر إلى شر طويل وافتراق أهل السنة والجماعة؛ فإن الفساد الناشئ في هذه الفرقة أضعاف الشر الناشئ من خطأ نفر قليل في مسألة فرعية".

- الأمر السابع: حاجة الصحوة لوحدة الصف: لئن كان الاجتماع ووحدة الصف ضرورة في كل وقت وحين، فالصحوة اليوم أحوج إليه من أي وقت مضى. إنها تعاني من ضعف الطاقات ومحدودية الإمكانات، وفي الافتراق والخلاف إضاعة للجهود، وتشتيت للطاقات. وهي تعاني من تآمر المفسدين وكيدهم، وفي إشاعة الاختلاف والفرقة خدمة لهؤلاء وخذلان لعباد الله الصالحين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: "وهذا التفريق الذي حصل من الأمة، علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها. وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله كما قال- تعالى-: "وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" "المائدة: 14". فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب".

وحين تريد الصحوة الإسلامية تقديم مشروعات عامة، وحين تريد إنكار منكرات أو تحتسب على باطل، وحين تريد دعم قضية من قضايا المسلمين، فإن ذلك كله لن يتأتى مع التفرق والصراع والتشاحن، بل سيؤدي بطائفة من الناس إلى قصد مخالفة من لا يتفقون معه، ولو أدى ببعضهم إلى الوقوف في صف أهل الفساد أو تسويغ باطلهم، والهوى يصنع العجائب.

من وسائل وحدة الصف

أولاً: إدراك أهمية وحدة الصف: لا بد من التأكيد على أهمية وحدة الصف وإشاعة الحديث حول ذلك حتى يتأكد هذا المعنى ويستقر، كما أن امتناع الداعية وطالب العلم المقتدى بهم عن بعض ما يطلب منهم رغبة في وحدة الصف، وتنازلهم عن كثير من حقوقهم الشخصية من أجل ذلك، كل هذا يربي تلامذتهم على الاعتناء بهذا الأصل، ويؤكده لديهم.

ثانياً: تقوية الأواصر والصلات: مما يعين على وحدة الصف أن تتقوى الأواصر والصلات بين الدعاة والمصلحين، ويمكن أن يتم ذلك من خلال العلاقات الشخصية، والتزاور والاجتماع، وإقامة المشروعات المشتركة، والتعاون على الأعمال الدعوية والاحتسابية. ومع ما في ذلك من تحقيق للمحبة والمودة فإنه يفتح المجال للنقاش حول أمور الخلاف حين يوجد الخلاف، فتكون هناك جسور مفتوحة يمكن التواصل من خلالها، أما حين لا يتم التواصل إلا عند الخلاف والنقاش فالغالب أنه يصعب أن يتحقق المراد.

ثالثاً: الموازنة بين قول الحق ووحدة الصف: إنه لا يتصور أن يسعى شخص بقصد وإرادة إلى شق وحدة صف الأمة ودعاتها إلا مَنْ في قلبه نفاق وكره لانتصار الدين، لكن عامة ما يحصل إنما هو شعور بالغيرة على الدين، ورغبة في بيان ما يعتقد الشخص بأنه هو الحق، وإن كان الغالب أن أمثال هؤلاء لا يسلم من ملابسة الهوى.
ومن ثم فإن الاحتجاج ببيان الحق وحده لا يكفي، ولا بد ها هنا من مراعاة أمور:

أ - أن يكون الحق واضحا جلياً؛ ذلك أن كثيراً من المسائل التي يشق فيها الصف، إما أن تكون من مسائل الاجتهاد والأمر فيها واسع؛ فحينها لا ينبغي الإنكار فيها، فضلاً عن إثارة الخصومة. أو أن يكون الأمر فيها تحقيق مناط وتنزيل حكم على واقعة؛ فالأمر فيه واسع ولا يجوز أن يلزم الشخص بأصل الحكم؛ فمن يـرى عـدم مشـروعيـة عمـل مـن الأعمـال المنسوبة للجهاد مثلاً لا يجوز أن يوصم بأنه ضد الجهاد والمجاهدين. أو أن يكون الأمر إلزاماً بما لا يلزم الشخص أو لا يلتزم به.

ب - أن يقتضي الأمر البيان، وتكون مصلحة البيان أرجح من مصلحة السكوت، فليس كل ما يُعلم يقال. وقد بوب البخاري- رحمه الله- في كتاب العلم من صحيحه: باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، وأورد فيه أثر علي- رضي الله عنه-: "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟". وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".

ج - أن يكون بيان الحق بالأسلوب المناسب؛ وأن يسلك فيه صاحبه العدل ويجانب البغي والظلم، ويجب أن يعلم أن من مسؤوليته- مع قول الحق وبيانه- وحدة الصف والسعي لجمع الكلمة.

د - أن يكون بيان الحق من الشخص المناسب؛ فالقضايا الكبار ينبغي أن يتحدث فيها الأكابر، وتغليط الكبار لا ينبغي أن يجاهر به الأغمار.

هـ - حين يتم بيان الحق فلا ينبغي أن يستمر الناس في الخوض فيما لا أثر له إلا إيغار الصدور وإثارة الفرقة، وما أجدر الغيورين على مصالح الأمة أن يمسكوا عن الجدل واللغط.

رابعاً: الاعتدال في الحكم على الأخطاء: لا يمكن أن يسلم البشر من الوقوع في الخطأ، ومهما بلغ الإنسان من العلم والتقوى والورع فهو عرضة للجهل والهوى والزلل؛ فالبحث عمن لا يزل ويقصِّر من البشر بحث عن محال. كما أن الخطأ يتفاوت أمره؛ فثمة فرق بين الكبيرة والصغيرة، والكبائر تتفاوت فيما بينها، والخطأ في المسائل الظاهرة ليس كالخطأ في المسائل الخفية، ومخالفة الدليل الصريح الصحيح ليست كمخالفة دليل محتمل أو فتوى عالم من العلماء.

وحين يترجح بيان خطأ عالم أو داعية فينبغي الاعتدال في ذلك، ومجانبة الغلو والشطط، وكثير من مواطن الافتراق والاختلاف تنشأ من مجانبة الاعتدال، فيشعر المنتقد أنه ما دام على الحق فهذا يسوِّغ له أن يقول ما يشاء وأن يفعل ما يشاء.

خامساً: الفصل بين الأشخاص والمواقف: من الأمور التي ينبغي أن يعنى بها مريد الحق أن يكون حديثه عن الحق أو الباطل متجنباً الأشخاص ما لم يترتب على ذلك مصلحة شرعية.

ومن المعلوم أنه لا يلزم من وقوع الشخص في الخطأ تأثيمه أو تضليله: قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: "وهذا فصل الخطاب في هذا الباب؛ فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفت وغير ذلك: إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع ولا يعاقبه الله ألبتة خلافاً للجهمية المجبرة وهو مصيب، بمعنى: أنه مطيع لله؛ لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر، وقد لا يعلمه خلافاً للقدرية والمعتزلة".

وقال أيضاً: "ولكن الأنبياء- رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- هم الذين قال العلماء: إنهم معصومون من الإصرار على الذنوب. فأما الصديقون، والشهداء، والصالحون: فليسوا بمعصومين. وهذا في الذنوب المحققة. وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يصيبون، وتارة يخطئون. فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطؤوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم. وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين: فتارة يغلون فيهم، ويقولون: إنهم معصومون. وتارة يجفون عنهم، ويقولون: إنهم باغون بالخطأ. وأهل العلم والإيمان لا يُعصَمون، ولا يُؤثَّمون".

سادساً: الحد من تسلط الأغمار: كان لمحدودية وسائل الاتصال أثر في قصر انتشار المقولات على من اشتهر بالعلم والرأي في الغالب، ومع اتساع انتشار هذه الوسائل صار من شاء يكتب ما شاء، وأدى هذا إلى تصدر كثير من الأغمار وحديثهم فيما لا يحسنون، وصارت لهم جرأة عجيبة على الأكابر.

إن الأكابر ليسوا بمنأى عن النقد وبيان ما أخطؤوا فيه، لكن لا بد من حد أدنى لمن يتحدث عنهم وينتقدهم. وأهل العلم والدعوة في الأمة يؤمل عليهم أن يشيعوا ثقافة احترام الأكابر، وضرورة تواضع الأصاغر، ولئن لم يرق لأحدهم قول، أو رأى الحق بخلافه فليدعه، لكن لا يتحدث مع الناس فيما لا يحسن.

سابعاً: الحذر من الانشغال بعيوب الناس: المسلم مأمور بحفظ لسانه وصيانة أعراض المؤمنين، ومن أعظم الآفات أن ينشغل المرء بعيوب الآخرين، فكيف حين يكون من يُنشغل بعيوبهم من أهل الصلاح والعلم والدعوة، ومم يعرفون بالخير في الأمة؟ وجدير بمن لا يُعرف لهم تصنيف إلا في الرد والتعقيب أن يراجعوا أنفسهم ويتأملوا حالهم؛ فقد يكون مبدأ الأمر غيرة ومنتهاه جري وراء الهوى.

ثامناً: توقير الأكابر: لقد جاء الشرع بوضع الناس في منازلهم، ومن ثَمَّ فالخطأ منهم ليس كالخطأ من غيرهم، لذا كان لزاماً حفظ منزلتهم ومكانتهم، وحين يصدر الخطأ والزلل منهم فالأمر يختلف عمن دونهم.

قال سعيد بن المسيب- رحمه الله-: "ليس مـن شريف ولا عـالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن مـن الناس مـن لا ينبغي أن تذكر عيوبه؛ فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله".

وقال الذهبي: "ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له، قمنا عليه وبدعناه وهجرناه، لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين؛ فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة".

وقال ابن القيم- رحمه الله-: "ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين".

تاسعاً: البعد عن تضخيم الخلاف: لا ينشأ الخلاف من فراغ، وكثير من مواطن الصراع والافتراق بذرتها خطأ وتقصير، يغذيها هوى، أو غلو وتضخيم. ومن الناس من لا يجيد الاعتدال، فيضخم الخطأ، فيقع في البغي والعدوان، ويعتقد بالتلازم بين الغلظة على من أخطأ والحمية على الدين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: "فبالجملة فليس مقصودي بهذه الرسالة الكلام المستوفي لهذه المسألة؛ فإن العلم كثير؛ وإنما الغرض بيان أن هذه "المسألة" ليست من المهمات التي ينبغي كثرة الكلام فيها وإيقاع ذلك إلى العامة والخاصة حتى يبقى شعاراً ويوجب تفريق القلوب وتشتت الأهواء. وليست هذه "المسألة" فيما علمت مما يوجب المهاجرة والمقاطعة؛ فإن الذين تكلموا فيها قبلنا عامتهم أهل سنة واتباع، وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا كما اختلف الصحابة رضي الله عنهم- والناس بعدهم- في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا؛ وقالوا فيها كلمات غليظة كقول أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. ومع هذا فما أوجب هذا النزاع تهاجراً ولا تقاطعاً. وكذلك ناظر الإمام أحمد أقواماً من أهل السنة في "مسألة الشهادة للعشرة بالجنة" حتى آلت المناظرة إلى ارتفاع الأصوات وكان أحمد وغيره يرون الشهادة ولم يهجروا من امتنع من الشهادة، إلى مسائل نظير هذه كثيرة".

وقال أيضاً: "وهنا آداب تجب مراعاتها:- منها: أن من سكت عن الكلام في هذه المسألة- رؤية الكفار ربهم- ولم يدع إلى شيء فإنه لا يحل هجره وإن كان يعتقد أحد الطرفين؛ فإن البدع التي هي أعظم منها لا يهجر فيها إلا الداعية دون الساكت؛ فهذه أوْلى. ومن ذلك: أنه لا ينبغي لأهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة محنة وشعاراً يفضلون بها بين إخوانهم وأضدادهم؛ فإن مثل هذا مما يكرهه الله ورسوله. وكذلك "أن" لا يفاتحوا فيها عوام المسلمين الذين هم في عافية وسلام عن الفتن، ولكن إذا سئل الرجل عنها أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك ألقى إليه مما عنده من العلم ما يرجو النفع به".

وقال أيضاً: "وأما الاختلاف في "الأحكام" فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة، ولقد كان أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بني قريظة: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدركتهم العصر في الطريق فقال قوم: لا نصلي إلا في بني قريظة وفاتتهم العصر . وقال قوم: لم يُرِدْ منا تأخير الصلاة فصلوا في الطريق فلم يعب واحداً من الطائفتين". أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر".

عاشراً: التفريق بين الخلاف في الرأي واختلاف القلوب:
لا بد أن يحصل الخلاف في الرأي وتتعدد الاجتهادات، لكن من واجب المسلم أن يحذر من أن يؤدي ذلك إلى اختلاف القلوب، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من ذلك؛ فعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: سمعت رجلاً قرأ آية، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: "كلاكما محسن، ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا".

الحادي عشر: الخلاف لا بد منه: يطمع بعض الغيورين والحريصين على وحدة الكلمة في قطع دابر الاختلاف والفرقة؛ لكنهم يتطلعون إلا نفي الخلاف في الرأي، ويسعون إلى الاتفاق على ما لا يمكن الاتفاق عليه.

وإذا كنا نريد وحدة الصف وجمع الكلمة فلا بد من استيعاب تعدد الآراء والاجتهادات- فيما يسع فيه ذلك- بل لا بد أن نتجاوز ذلك إلى استيعاب تعدد المدارس الفكرية كما تعددت المدارس الفقهية، ولا يمكن أن يكون الناس نسخة واحدة.

وبدلاً من السعي لتذويب ما لا يمكن تذويبه من الفوارق ينبغي أن يتركز الأمر على استجلاء الثوابت، وضبط الاجتهادات وتسديد المسيرة.

الثاني عشر: فتح المجال للحوار وإشاعة أخلاقياته: إن مما يقلل الاختلاف والصراع أن يفتح المجال للحوار، وأن يسود بين شباب الصحوة ودعاتها جو الحوار؛ وبدون الممارسة العملية سيبقى الحديث عن آدابه وأخلاقياته حديثا نظرياً.

ومن تأمل واقع السلف رأى ذلك جلياً؛ فكانوا يختلفون ويسود بينهم الحوار والمناظرة والجدل بالتي هي أحسن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: "وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله- تعالى- في قوله:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" "النساء: 59" وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين".

الثالث عشر: سعي المصلحين لرأب الصدع وتدارك الخلاف:
من المهم حين يشيع خلاف تبدو منه بوادر الافتراق أن يسعى المصلحون للأخذ بزمام المبادرة، فيبذلون وسعهم في الإصلاح ورأب الصدع قبل أن يتأصل الخلاف وتطول الخصومة، ومما ينبغي على المصلحين مراعاته:

أ - أن يكفوا عن الخوض فيما لا يليق بهم أن يخوضوا فيه، ويكونوا بذلك قدوة لغيرهم، وفي كل موطن من مواطن الخلاف والصراع تتميز فئة ممن رزقهم الله العلم والبصيرة فيمسكون عن الخوض في الفتن؛ فما أجمل أن يقتدي الدعاة وطلاب العلم بأمثال هؤلاء.

ب - أن يحذروا من الانسياق وراء المتحمسين والمندفعين فيما لا يحقق المصلحة؛ فكم رأينا من مواقف دفع فيها الشبابُ بعضَ أهلِ العلم والدعاة إلى مواقف لا تليق بمن هو دونهم فضلاً عن أمثالهم.

ج - أن يسعوا للإصلاح بين المتخاصمين بأنفسهم، وقد كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم معيناً بذلك؛ فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي! فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حماراً، فانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة؛ فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إليك عني! والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: واللهِ لَحِمَارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنها أنزلت: "وَإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا" "الحجرات: 9"".

وعن سهل بن سعد الساعـدي- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم في أناس معه فحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت الصلاة...".

ويعظم سعيد بن المسيب- رحمه الله- شأن الإصلاح فيقول: "ألا أخبركم بخير من كثير من الصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى! قال: إصلاح ذات البين، وإياكم والبغضة؛ فإنها هي الحالقة".

وفي حادثة الإفك انشغل النبي صلى الله عليه وسلم بالإصلاح بين المسلمين، وترك ما كان يريد الحديث عنه من أمر عظيم ألا وهو عِرْضُه صلى الله عليه وسلم، وترك الحديث عن اتهام أحد أصحابه للآخر بالنفاق؛ ففي حديث الإفك: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، وقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله! أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية فقال: كذبتَ لَعَمْرُ الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن حضير فقال: كذبتَ لَعَمْرُ اللهِ واللهِ لنقتلنه؛ فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيان: الأوس والخـزرج؛ حتى همـوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل فخفضهم حتى سكتوا وسكت".

وكان لأهل السنة- رحمهم الله- اعتناء بذلك؛ فها هو شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- يكتب لطائفة من إخوانه الذين تجاوزوا في ذلك فيقول: "والذي أوجب هذا الكلام أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم حتى ذكروا: أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والله هو المسؤول أن يؤلف بين قلوبنا وقلوبكم، ويصلح ذات بيننا، ويهدينا سبل السلام ويخرجنا من الظلمات إلى النور ويجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ويبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا ما أبقانا، ويجعلنا شاكرين لنعمه مثنين بها عليه قابليها ويتممها علينا. وذكروا أن سبب ذلك الاختلاف في "مسألة رؤية الكفار ربهم" وما كنا نظن أن الأمر يبلغ بهذه المسألة إلى هذا الحد؛ فالأمر في ذلك خفيف... ثم ذكر الجواب".

أسأل الله أن يمن على عباده المؤمنين بالاجتماع، وأن يجنبهم مواطن الزلل والفرقة والخصومة؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده.